تاريخ دبي الحضاري جزء لصيق من تاريخ الإمارات. وخور دبي بالذات له تاريخ لا يقل عن خمسة آلاف عام، من هنا يأتي أحد أسماء دبي القديمة بـ «الوصل»، فهي حلقة الوصل بالعالم منذ ذاك العمق التاريخي، وتركيبتها السكانية لحقت بذلك الوضع من التعايش وفق منظور السلم الاجتماعي.
نتعمق قليلاً في الفكر الحضاري للشيخ راشد رحمه الله، من هذا الشريان الذي يربط قارات العالم في تجارة إعادة التصدير، يبشرنا بذلك حفيد راشد سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد من خلال تغريدة على «تويتر»، يقول فيها: نمو قوي ومبشّر لتجارة دبي الخارجية وصل إلى 31% بإجمالي 722 مليار درهم في النصف الأول من 2021.. نمضي بثقة وبروابط قوية مع العالم في تحقيق رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم للوصول بتجارة دبي إلى تريليوني درهم خلال خمس سنوات وإضافة 200 مدينة جديدة لشبكة شركائنا التجاريين.
هذا الشريان الحيوي قسّم جغرافيا إمارة دبي إلى بر دبي وبر ديرة، وكانت وسيلة التواصل بين البرين عن طريق «العبرة»، أو السباحة.
إلا أن فكرة الوصل لدى المغفور له الشيخ راشد، كانت أعمق من عمق الخور ذاته، فقد شرع في إنشاء أول جسر بين البرين في أوائل ستينيات القرن العشرين، حيث ربط البرين بـ«جسر آل مكتوم»، الذي كان سبباً مباشراً لتغيير وجه الحياة في دبي ككل، وكان أول جسر في الإمارة يفرض رسماً رمزياً وقدره 25 فلساً على المركبة، إلى أن استكمل تكاليفه فعاد العبور بالمجان، وفي ذاك رؤية اقتصادية راقية تنم عن فكر تنموي سبق زمانه بعقود.
من يصدق بأنه على مسافة عدة كيلومترات، وعلى امتداد الخور، نرى قرابة 2000 سفينة تصطف في نوتة موسيقية لحنها الوحيد الإنسانية، أكثر من نصف مليار إنسان بانتظار وصول هذه البضائع إليها.
وعلى ضفافه سيمفونية تعكس التنوع وتعزف لتُعبّر عن روح الحضارة، ألف بائها جامع لأهل السُنة، وبجواره جامع آخر لإخواننا الشيعة محاطة بمآتمهم وإدارات أوقافهم. ومن خلفهما معبد هندوسي تقام شعائرها في وضح النهار وبالليل أمام الناظرين، ومن بعدها بقليل كنيسة كاثوليكية بنيت مع بناء دبي.
ولقد دعوت أسرة أسترالية صديقة إلى جولة ترفيهية في فصل الشتاء، وكانت أستراليا تشكو من ضغط التطرف والإرهاب آنذاك، فكنت لهم مرشداً سياحاً، فنبهتهم على كل دور العبادة الدينية لكل الطوائف في هذه المساحة الضيقة، ولم يشهد هذا المكان إرهاباً ولا تطرفاً ولا عنفاً، فلماذا أنتم تعانون؟!
وأثناء جولتنا تذكر جد الأسرة الضيف، في التو بأنه مر من هذا الخور في الخمسينيات من القرن الماضي عندما كان جندياً في البحرية الأميركية.
وفي منطقة «الراس» تطل على هذا الخور أس الحضارة الإنسانية في جميع مراحلها، أول مكتبة عامة في إمارة دبي وأقدمها، والتي تأسست عام 1962م، وكانت معبدنا العلمي والثقافي آنذاك ولا زالت فروعها المنتشرة في معظم مناطق دبي تزود عقولنا بكل نتاج فكر العالم.
ولم يكتف الشيخ راشد بجسر آل مكتوم للوصل بين البرين، حيث تفتق عقله وذهنه الوقاد عن حفر نفق في منطقة الشندغة لشد الرباط أكثر بين البرين التوأم.
وقد يبدو هذا النفق من الوهلة الأولى ممراً مائياً من تحت الخور، وقد لا يدرك البعض بأن في عمق هذا النفق شبكة كهربائية دورها الرئيس يظهر عندما ينقطع التيار الكهربائي عن أحد البرين، فإن شبكة الاحتياط تمد أحدهما بالكهرباء دون أن يشعر أحد بشيء.
يقول أحد وزراء الكهرباء في إحدى دول الخليج: لو كان الأمر بيدي لما أطفأت هذا النور عن بلادي أبداً، لأني عشت جزءاً من حياتي كان الظلام فيه هو السائد.
ولن نترك هذا الشريان الذي يحوي كل مكونات الحضارة البشرية في مساحة تعبرها في دقائق معدودة، حتى نذكر عن هذا الخور الجوهرة والذي جعل من دبي لؤلؤة مضيئة على مدار الأزمنة، بأنه قد تم ترميمه بقرابة 5 مليارات درهم من أجل إطالة عمره الحضاري لقرون قادمات كما تفعل إيطاليا مع برج «بيزا» المائل لتعيش مئات أخرى من السنين.
بل إن نظافة خور دبي اليوم أشبه بالمرآة ترى وجهك فيها بوضوح، لأن هناك غواصين متطوعين يقومون على رعاية هذا الكنز الثمين.
كاتب إماراتي