سجل الأميركيون رقماً قياسياً بلغ 4.3 مليون عامل تركوا وظائفهم في أغسطس، في ظاهرة اعتبرها معظم المراقبين معقدة ومثيرة للاهتمام وكاشفة لحال الاقتصاد وكيفية تفكير الناس بشأن طبيعة العمل بعد مرور ما يقرب من عامين على جائحة فيروس كورونا. وهذه فرصة استثنائية لفحص الحياة الاقتصادية للبلاد بطريقة مختلفة قليلاً. وقد ننظر فيما بعد إلى هذه الفترة من التاريخ باعتبارها مرحلة محورية في طريقة نظرنا للعمل، لكن قوى الرجعية لم تتأخر كثيراً قط عند ظهور أي إشارة من التقدم.
وقوى الرجعية يمكن رصدها على مستوى النخب الذين وجهوا رسالة للجمهور، مفادها المطالبة بالعودة إلى العمل والتوقف عن الشكوى. وهذا يتجلى عند عضو الكونجرس الجمهوري تيم بورشيت الذي عبر عن شعور عام داخل حزبه، في تغريدة يوم 14 أكتوبر، قال فيها: «4.3 مليون عامل تركوا وظائفهم. يتعين علينا التوقف عن الدفع لمن لا يعملون». ولا يدرك عضو الكونجرس فيما يبدو أنه إذا اختار المرء ألا يعمل، فلن يكون مستحقاً لتلقي تأمين البطالة.
وما يطلق عليه الآن «الاستقالة العظيمة» له أسباب كثيرة. فكثيرون ممن تركوا عملهم يقومون بهذا لأنهم يعتقدون أن بمقدورهم الحصول على عمل أفضل في مكان آخر. وبعضهم يدشن نشاطه الاقتصادي الخاص به. وبعضهم قرر التقاعد مبكراً وإن يكن على دخل أقل، لأنهم يعلون قيمة الوقت على قيمة المال. وعمليات ترك العمل حدثت بأعلى معدل في الصناعات منخفضة الأجور مثل المطاعم والضيافة والبيع بالتجزئة. فقد سئم كثيرون من الأجور المتدنية وظروف العمل الصعبة وسوء معاملة الزبائن. وكثيرون ممن ظلوا في وظائفهم القديمة يفكرون في تركها.
وهذا لم يحدث مصادفة. فقد مثلت الجائحة منذ البداية أزمة صحة عامة واقتصاد، وطبيعة الوظائف كانت في محور هذه الأزمة. فحين دخل الاقتصاد في غيبوبة في بداية 2020، بدأنا نتحدث عن «العمال الأساسيين» الذين عرضوا أنفسهم للخطر لصالح الآخرين. لكن ماذا حصلوا في مقابل هذا؟ ليس الكثير. فمنذ اللحظات الأولى من الجائحة، شعر «الجمهوريون» بالقلق من أن يبدأ العمال في اعتناق أفكار خطيرة عن قيمتهم الذاتية. ففي أبريل 2020، وقع الرئيس ترامب أمراً تنفيذياً يعلن أن مصانع تعليب اللحوم «بنية تحتية حيوية» مجبراً قوة العمل التي أغلبها من المهاجرين على البقاء في وظائف خطيرة بالفعل، حتى أصيب آلاف منهم بكوفيد-19.
وحين ضغط «الديمقراطيون» لإدخال تعزيز إعانات البطالة في مشروعات قوانين الإغاثة، اعترض «الجمهوريون» بشدة محتجين بأن هذا سيجعل الأميركيين كسالى وغير راغبين في العمل. وتحركت ولايات «جمهورية» لقطع هذه الإعانات مدعية بأن هذا سيتمخض عن انفجار في نمو الوظائف لأن الكسالى سيُجبرون على العمل. وجانبهم الصواب، فلم تبل الولايات التي قطعت الإعانات المعززة مبكراً بلاء أحسن من الولايات التي لم تفعل. والآن مع جدل «الديمقراطيين» بشأن تمديد رصيد ضرائب الأطفال المعزز وتحسين أنظمة الرعاية الصحية ورعاية الأطفال، نسمع الحجة نفسها، أحياناً من «ديمقراطيين محافظين» مثل «جو مانشن»، سيناتور ولاية ويست فيرجينيا. ويرى مانشن أنه «إذا جعلت حياة الناس مفرطة الأمن، فسيكشفون عن طبيعتهم التواكلية، ولذا دعنا نجعل الإعانات شحيحة قدر الإمكان ونجبر الناس على خوض مسار بيروقراطي معرقل للحصول عليها».
وهذا صراع مستمر يدور في الكونجرس وأماكن العمل على امتداد البلاد. وتوازن القوة في هذه الفترة القصيرة يميل قليلاً نحو العمال لأن نقص عددهم يسمح لهم بالمطالبة بأجور وظروف عمل أفضل. واتباع نظام أقوى من الدعم الاجتماعي سيغير هذا التوازن بشكل أكبر. فإذا كان تأمين المرء الصحي لا يعتمد على نزوات رئيسه في العمل، وإذا كان لديه رعاية ميسورة لأطفاله، فلن يعيش في رعب دائم من خسارة عمله. وشعور المرء أن بوسعه ترك العمل دون الخوف من عدم العثور على عمل أفضل سيعطيه المزيد من القوة.
لكن يجب ألا ننسى أن الحال الذي يعيشه معظم الأميركيين ليس هكذا ولو من بعيد. ونحن نشهد موجات من الإضرابات ليس لشعور العمال بأن لديهم فرصة لتحقيق نجاح، بل لأن أجورهم وظروف عملهم أصبحت لا تطاق. وفي استطلاع للرأي في الآونة الأخيرة، ذكر نحو 40% من الأميركيين أنهم واجهوا صعوبة اقتصادية خطيرة في الشهور القليلة الماضية.
لطالما سردنا على أنفسنا قصة أميركا أرض الفرص التي بلا حدود رغم علمنا بعدم صحة هذا. ونسرد، ونعيد سرد، قصص أشخاص استثنائيين صعدوا بأنفسهم من ظروف بائسة ليحققوا النجاح والثروة دون أن نعترف بأن المشكلة تكمن في الطبيعة الاستثنائية هذه تحديداً لهذه القصص. ففي مجتمع عادل، لا يتعين على المرء أن يكون فائق العبقرية أو مدمناً للعمل مهووس به لينقل نفسه إلى حياة خالية من الحرمان.
يمكننا سلوك أحد طريقين مع خروجنا في الجائحة. إما نحو اقتصاد يقدم للناس المستوى الأساسي من الأمن الذي يسمح لهم بخوض حياة خالية من الخوف من البؤس الاقتصادي، أو نحو طريق نخبر فيه الناس أنهم سيكونون سعداء بحصولهم على أي عمل وأنهم لا يستحقون أكثر. وتاريخنا لا يوحي بمضي الأمور مضياً حسناً لصالح الأشخاص العاديين. لكن لدينا على الأقل فرصة لتحقيق شيء مختلف.
بول والدمان
كاتب أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»