قبل أن يُدرج مصطلح «النمو الاحتوائي» ضمن القاموس الاقتصادي ويستخدم على نطاق واسع عالمياً، كان اهتمام صُنَّاع السياسات الاقتصادية في دول العالم المختلفة ينصب دائماً على ضبط إيقاع النمو الاقتصادي. وفي هذا السبيل، استمرت جهودهم لحشد ما لدى الاقتصاد من موارد وإمكانات ليتسم نموه بالاستقرار والتزايد. لكن بوصلتهم بعد ذلك بدأت تتجه إلى غاية اقتصادية أكثر رشداً.

فالمهم ليس مجرد تحقيق نمو اقتصادي سنوي، لكن المطلوب أن تتوزع أعباء وتكاليف هذا النمو بطريقة متكافئة وعادلة على المشاركين في صناعته كافة. أي أن يتحول النمو الاقتصادي إلى النوعية الاحتوائية.وبطبيعة الحال، فإن الاقتصاد الاحتوائي هو ذلك الاقتصاد الذي يحقق نمواً احتوائياً لفترة ممتدة من الزمن.

وبالتالي، ولكي يتمكن أي اقتصاد من الوصول إلى هذا الهدف العزيز، يتعين عليه العمل على ثلاثة محاور أساسية. يتمثل المحور الأول في الاحتواء القطاعي. ويقصد به أن تُسهم جميع القطاعات الاقتصادية في توليد النمو الاقتصادي بنسب تكافئ مكانة كل قطاع في استدامة هذا النمو، وبالشكل الذي يجنب الاقتصاد مخاطر التركز في قطاع واحد دون غيره من القطاعات.

ويتمثل المحور الثاني في الاحتواء الجغرافي. ويعني أن تكون جغرافيا الاقتصاد مشمولة بالنمو، وأن تتوزع تكاليف ومولدات هذا النمو بعدالة إقليمية. فلا يوجد إذن استحواذ إقليمي ضمن مفهوم الاقتصاد الاحتوائي، سواء في دفع تكلفة النمو، أو في الاستفادة من الثمار التي يخلقها. وبذات المنطق، فإن المحور الثالث يدور حول الموازنة والتناغم بين الفاعلين في الاقتصاد المحلي. فالاقتصاد الاحتوائي لا تستبعد منه جدارات القطاع الخاص، وتراعى فيه المبادرات الفردية لكبار المستثمرين وصغارهم. كما يتصف الدور الحكومي في الاقتصاد الاحتوائي بالكفاءة والفاعلية والرشادة، ويتجنب -قدر المستطاع- المزاحمة بين أنشطة القطاعين العام الخاص.
ولكي يتحول أي اقتصاد إلى النوع الاحتوائي بمحاوره السابقة، فهو مُطالب بتحسين كفاءة الخدمات العامة والاجتماعية التي تضمن الارتقاء بإنتاجية رأس المال البشري. فالبنية الأساسية المتطورة، والتحول الرقمي في الخدمات الحكومية، والتحسن المُطَّرِد في نوعية الخدمات الصحية والتعليمية المتاحة للجمهور، تمثل متطلبات أساسية في الاقتصاد الاحتوائي. إضافةً إلى أن كفاءة استخدام الموارد الاقتصادية، وتجنب الهدر والتعطل في أي منها، وتوافر أنظمة جيدة للضمان الاجتماعي والأمن الغذائي، ومحاصرة الأنشطة الضارة بيئياً، تفيد في عملية التحول السريع ناحية الاقتصاد الاحتوائي، وتمكنه من خلق فرص عمل مُنتجة.
وبنظرة سريعة على التجربة العالمية، هناك أمثلة عديدة على التحول إلى الاقتصاد الاحتوائي. غير أن أبرز هذه الأمثلة الدولية يتمثَّل في الدول الإسكندنافية في شمال أوروبا. كما يمكن اتخاذ التجربة الخليجية مثالاً إقليمياً على أهمية التحول المستمر صوب الاقتصاد الاحتوائي. فبينما تؤكد المؤشرات الاقتصادية أن مجموعة الدول الأولى أنجزت قدراً كبيراً من هذا التحول، فإن المجموعة الثانية تُسخِّر الآن مواردها الاقتصادية للإسراع إليه في المستقبل القريب.

*تريندز للبحوث والاستشارات