على خلاف الطابع الشخصي للنظام الرئاسي الأميركي، لا تلائم المناظرات التلفزيونية بين المرشحين الطابع البرلماني للديمقراطية الألمانية. لكن في حملة انتخابات عادية قبل الانتخابات الاتحادية المقررة في 26 سبتمبر، ما المثير للانتباه في الأمر؟ ظهر ثلاثة مرشحين لخلافة أنجيلا ميركل في منصب المستشار الألماني في أول مناظر ثلاثية في الأيام القليلة الماضية.
وأكد استطلاع سريع للرأي بعد المناظرة نتائج الاستطلاعات السابقة في الآونة الأخيرة. فقد احتل المرتبة الأولى أولاف شولتز، وزير المالية الألماني التكنوقراطي الصارم الذي يمثل الحزب «الديمقراطي الاشتراكي» من يسار الوسط، مستحوذا على تأييد 36% من الخاضعين للمسح. واحتلت أنالينا بايربوك، من حزب الخضر المدافع عن البيئة، المرتبة الثانية مستحوذة على 30%. وبذل «آرمين لاشيت»، الزعيم الضعيف لتكتل المحافظين من يمين الوسط، أقصى ما لديه، لكنه لم يستطع إلا إقناع 25% فقط من الجمهور.
وتقييمي النهائي للأشخاص الثلاثة هي أن ثلاثتهم أشخاص مهذبون تطيب الصحبة معهم على حفل عشاء. لكنهم ضعاف مقارنة بمستوى مستشارين مثل ميركل وهيلموت كول كونراد أديناور. وثلاثتهم متقاربون في التفضيلات السياسية بأكبر ما يريدون الإقرار بهذا. فإلى ماذا يفضي بنا هذا؟
إذا كان ما يهتم به المرء هو من سيكون المستشار التالي، فإن الترجيح يتزايد نحو «شولتز». وهذه مفاجأة في حد ذاتها بعد سباق ظل حتى ربيع هذا العام يدور فيما يبدو بين «لاشيت» و«بايربوك». لكن إذا أردنا التكهن بالمسار الذي ستسلكه السياسة الألمانية فيما هو قادم، لا تزيدنا المناظرة بصيرة في هذا.
وهذا يرجع في جانب كبير منه إلى أن السياسة في هذه الثقافة الألمانية مثل الكيمياء العضوية، أي أن المركبات أكثر أهمية من العناصر المفردة المكونة لها. والمركبات في هذا السياق تُعرف باسم الائتلافات. ومن المركبات الممكنة سياسياً وحسابياً بعد سبتمبر، سيكون للخضر، من شبه المؤكد، مكان في هذه الائتلافات، رغم أنهم لن يكونوا في موقع القيادة على الأرجح.
وهذا يعكس في جانب منه شيوع السياسة الخضراء بقوة في السياسة الألمانية. فكل الأحزاب تعلن الآن اهتمامها بالتساوي بالتصدي لتغير المناخ، لكنها تختلف بشأن أفضل الوسائل للقيام بهذا. وأحد الخيارات يتمثل في أن يقود «لاشيت» وتكتله المحافظ ائتلافاً مع «الخضر»، و«الديمقراطيين الأحرار» المؤيدين لرجال الأعمال والمناهضين لزيادة الضرائب. وفي سياسة المناخ، ستؤكد حكومة بهذا الشكل على آليات السوق، مثل رفع سعر الكربون في مقابل فرض حظر من الدولة وتقديم دعم منها. وسيجدد ائتلاف من هذا النوع التزامه تجاه الشراكة عبر الأطلسي وتعزيز قوة الجيش الألماني، كما يحث على ذلك الحلفاء، والحفاظ على الاستقرار في الاتحاد الأوروبي وفي الداخل بقدر الإمكان. لكن المحافظين يأتون في مرتبة تالية للديمقراطيين الاشتراكيين في استطلاعات الرأي، ولذا فمن المحتمل أيضاً تشكيل ائتلاف بقيادة «شولتز»، وهذا لديه خيارات أكبر مما لدى «لاشيت». والخيار الذي يفضله من حين إلى آخر هو المشاركة مع «الخضر» أيضاً و«الديمقراطيين الأحرار».
وهذا لن يؤدي إلا إلى ميل ألمانيا قليلاً نحو اليسار باتباع سياسات مثل زيادة الحد الأدنى للأجور وموقف أقل صرامة مالياً في الاتحاد الأوروبي وسياسة أكثر تشككاً تجاه الولايات المتحدة. لكن السياسة الألمانية لن تتغير كثيراً. إلا أن هناك احتمالية أخرى لا تُفهم بشكل جيد خارج ألمانيا، لكنها محور الحديث حالياً في برلين. فقد يشكل «الديمقراطيون الاشتراكيون» أيضاً ائتلافاً مع الخضر، وحزب «اليسار»، وهو حزب متشدد ينحدر إلى حد كبير من الشيوعيين الذين حكموا ألمانيا الشرقية ذات يوم. وتشكيل حكومة من كل اليساريين على هذا النحو قد يرقى إلى مستوى ثورة صغيرة. وفي الداخل قد يكون الحديث عن التحديث لكن المراد هو معاقبة الأثرياء بزيادة معدل الضرائب وفرض ضرائب جديدة.
وفي إطار الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، لن تكون ألمانيا محل ثقة لأن «اليسار» لا يروقه أي من التكتلين. وفي ما يتعلق بسياسة الدفاع والخارجية، قد تصبح ألمانيا دولة متمردة. ومن الواضح أن «شولتز» لا يروقه أن يبدو بهذه الصورة، لكن ما سبب بقاء هذه الصورة رغم ذلك؟ السبب في هذا أن «شولتز»، على خلاف «لاشيت» و«بايربوك»، ليس جزءاً من قيادة حزبه رسمياً، ولا يمكنه فرض سيطرته الكاملة.
لقد حاول أن يصبح زعيما للحزب «الديمقراطي الاشتراكي» عام 2019، لكنه خسر أمام يساريين متشددين. ولا شك تقريباً في أن اليساريين في الحزب «الديمقراطي الاشتراكي» سيروقهم الشراكة مع حزب اليسار بقدر ما يخشى شولتز هذا. ومن الوجيه أن نسأل عمن سيستحوذ من الجانبين على أكبر نفوذ. واستخدام احتمال وصول اليسار الخالص إلى السلطة كفزاعة هو أفضل أداة باقية في الحملة الانتخابية لدى «لاشيت». لكن شولتز وبايربوك يمكنهما إبطال تأثير هذه الأداة. فقد استبعد «المحافظون» صراحة مجرد التفاوض مع حزب «البديل من أجل ألمانيا» من اليمين المتشدد، ومع حزب «اليسار». كما التزم حزبا «الديمقراطي الاشتراكي» و«الخضر» بهذا في مواجهة «حزب البديل من أجل ألمانيا» فقط. وإذا أراد «شولتز» والحزب «الديمقراطي الاشتراكي» تحقيق أكبر انقلاب انتخابي في تاريخ ألمانيا ما بعد الحرب وحكم ألمانيا بحكمة في الوقت نفسه، فإنهم قد يؤدون جميلاً للجميع. ويجب عليهم التصريح الآن ببساطة أنهم لن يقيموا شراكة أبدا مع حزب «اليسار».
*رئيس التحرير السابق لصحيفة «هاندلزبلات جلوبال» الألمانية.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرح نيوز سيرفس»