كان الطهطاوي أسبق في كتابة السيرة من خلال كتابه «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز»، من أجل إيجاد نموذج لبناء الدولة في الموروث للاستعانة به في بناء الدولة العصرية، أي دولة محمد علي. ثم استأنف المحدَثون سُنة القدماء في كتابة السيرة للاستلهام منها طبقاً للأيديولوجية السائدة، الليبرالية أم القومية أم الاشتراكية. وكان أشهر كتبهم «حياة محمد» و«في منزل الوحي» لمحمد حسين هيكل. كما كتب العقاد «عبقرية محمد»، وكتب خالد محمد خالد «محمد».. وكلها كتب وُضِعت انتصاراً للأيديولوجيا الليبرالية في النصف الأول من القرن العشرين. كما جاء كتاب «على هامش السيرة» لطه حسين في الإطار ذاته. وكان الهدف البحث عن نموذج للقيادة ولنظام الحكم الليبرالي في التراث، بغية تأسيسه انطلاقاً من الموروث الإسلامي حتى يكون أكثر قبولاً.
وتجمع السيّر الليبرالية كلها بين العقلانية والرومانسية والوطنية وروح التسامح والأخوّة. كما تعبّر عن النزعة الإنسانية.. فالإسلام كما جسدته ثورة 1919 دين عالمي للبشر أجمعين. وفي النصف الثاني من القرن العشرين عندما تم التحول من الخيار الليبرالي إلى الخيار الاشتراكي القومي، كتب عبد الرحمن الشرقاوي «محمد رسول الحرية»، ويقصد الحرية الفردية والاجتماعية، كما غنت أم كلثوم شعر شوقي في «نهج البردة»: والاشتراكيون أنت إمامهم/// لو لا دعاوي القوم والغلواء أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى/// فالكل في حق الحياة سواء وفعل نفس الشيء عبد الرحمن الشرقاوي في «الحسين ثائراً» و«الحسين شهيداً».
ولا فرق بين التاريخ الإسلامي والتاريخ الوطني في «الفتى مهران» و«وطني عكا». وانضم القوميون أيضاً إلى كُتّاب السيرة على نحو مباشر أو غير مباشر، فكتب ميشيل عفلق مقاله الشهير «في ذكرى المولد النبوي»، وأطلق عبارته الأشهر: «إذا كان محمد كل العرب فكل العرب محمد». وكتب خلف الله محمد خلف الله «محمد والقوى المضادة»، ويصوره قائداً طليعياً ضد قوى التخلف والتسلط السياسي والاجتماعي والاقتصادي. لم يكتب التيار العلمي العلماني شيئاً في هذا المجال، بمن فيهم شبلي شميل وفرح أنطون ويعقوب صروف وسلامة موسى وزكي نجيب محمود.. باستثناء نظمي لوقا في كتابه عن «الرسول».
وقد حاول شبلي شميل استخراج نظرية التطور من القرآن الكريم حتى يكون لها حضور أوسع ومعارضة أقل. وحاول فرح أنطون تأصيل نفس التيار في التاريخ الإسلامي عبر كتابيه «أورشليم الجديدة» و«ابن رشد وفلسفته». وبهذه الطريقة نظر كل طرف إلى سيرة الرسول من الزاوية التي أرادها. ففي تحديات الأمة الداخلية، الرسول محرر للأرض من الاحتلال، ومحرر للإنسان من القهر والتسلط والطغيان، ومحقق للعدالة الاجتماعية ضد التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، وموحد للأمة ضد مخططات التجزئة والتفتيت العرقي والطائفي.. كما أنه قائد المواجهة ضد التحديات الخارجية، إلى درجة أن بعضهم يصوره باعتباره المناهض للعولمة واقتصاديات السوق، والعالَم ذي القطب الواحد، كما أنه التجسيد الفعلي لاستقلال العقل والإرادة، وهو المحاور للحضارات وليس المصادم لها، وهو مؤسس المجتمع المدني في استقلال القضاء والحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدين النصيحة.
وهو القائد الذي يحسن الإدارة العليا للدول ويضع نظمها ومؤسساتها. وهو المدافع عن حقوق الإنسان («كلكم لآدم وآدم من تراب»)، وهو شهيد على أن عباد الله إخوان. وهو المناصر لحقوق المرأة فـ(«النساء شقائق الرجال»). وهو المثبِّت لحقوق الأقليات، فليست العروبة بأب أو أم وإنما العروبة هي اللسان، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح. وهو أول من حدّث الخطاب الديني بنقد الوثنية وتعدد الآلهة ومحاربة الخرافة السحر والوهم والكهانة.. داعياً إلى تحكيم العقل واستعمال البرهان. فكم من سيرة يمكن كتابتها في كل عصر!
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة