بينما يواجه الأفغان تحديات في أعقاب الانسحاب العسكري الأميركي من بلدهم، بدأ العراقيون يتساءلون عما إن كان الدور المقبل دورهم.
إدارة بايدن، التي أكدت من جديد على دفاع الرئيس عن انسحابه من أفغانستان، استخدمت بكثرة خلال الآونة الأخيرة شعار واشنطن الحالي، «الحروب التي لا نهاية لها»، إضافة إلى الإشارة إلى شعارات قديمة حول «المصلحة الوطنية». فالسعي وراء الأخيرة يقتضي إنهاء الأولى، هكذا تقول النظرية.
وقد يبدو العراق، حيث بلغ الوجود العسكري الأميركي عامه الثامن عشر الآن، مثل واحدة من تلك «الحروب التي لا نهاية لها»، ولكن تمديد الوجود العسكري هناك يمثّل شرطاً ضرورياً لعدد من الأهداف الأميركية المتداخلة، بما في ذلك الحفاظ على السلام الهش في البلاد، وحماية حلفاء الولايات المتحدة الشرق أوسطيين، والحؤول دون عودة تنظيم «داعش»، وهذه كلها أهداف تصب في المصلحة الوطنية الأميركية بالطبع.
ولكن هل يرى بايدن الرأي نفسه؟ نأمل ذلك. والواقع أن لدى الرئيس الأميركي تاريخاً من الأفكار الضبابية والمتهورة حول الشرق الأوسط – فحين كان سيناتوراً، دعم بايدن مقترح «تقسيم ناعم» للعراق وفق خطوط طائفية وإثنية، غير مبال بما إن كان العراقيون يرغبون في أن يقسّموا بتلك الطريقة. ولحسن الحظ أنه توقف عن التعبير عن تلك الآراء منذ دخوله البيت الأبيض.
وخلافاً لما كان عليه الحال في قضية أفغانستان، حيث رفض الرئيس الأميركي حجة البنتاجون الذي كان يريد الإبقاء على وجود عسكري، فإنه أُقنع على ما يبدو بأن العراق مسألة مختلفة. وبدلاً من أن يسحب كل الجنود الأميركيين، قرر أن تتحول مهمتهم من محاربة الأعداء إلى مساعدة العراقيين على القيام بالمهمة.
وهذه حركة ذكية تسمح لكل من بايدن ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بتهدئة الناخبين المحليين الذين يتوقون إلى خروج أميركي كامل. إذ يستطيع الرئيس الأميركي أن يدعي أنه حتى إذا لم يعد الجنود إلى البلاد، فإنه سحبهم من الخط الأمامي، وبدوره، يستطيع الكاظمي، عشية الانتخابات العامة، تهدئة المليشيات والأحزاب السياسية المدعومة من الخارج التي ترغب في رحيل الأميركيين.
والواقع أن استمرار الوجود العسكري الأميركي لن يحسّن مهارات قوات الأمن العراقية فحسب، وإنما سيعزز أيضاً معنويات الجنود الذين، وعلى غرار نظرائهم الأفغان، حملوا على عاتقهم لسنوات معظم عبء محاربة التنظيمات الإرهابية في بلدهم – ودفعوا معظم الكلفة البشرية. ولا يستطيع حتى بايدن اتهام العراقيين، مثلما فعل مع الأفغان، بأنهم لا يرغبون في «القتال دفاعاً عن أنفسهم».
مثلما أنه لا يستطيع أن يقول إن القوات الأميركية في العراق تواجه خطراً وشيكاً: إذ ليست هناك أي قوة تشبه «طالبان» على وشك السيطرة على بغداد، وهذا أيضاً يمثّل إلى حد كبير دليلاً على خصال القوات العراقية، فتلك القوات استعادت، بمساعدة الولايات المتحدة، الأراضي التي فقدتها أمام «داعش»، كما أنها هي التي تحول دون عودة الإرهابيين، الذين ما زالوا طلقاء.
غير أن الانخراط الأميركي أساسي من أجل الدفاع عن الجيش العراقي من تهديدات أخرى، ذلك أن إدماج وحدات أميركية ضمن القوات الوطنية العراقية، وخاصة قوات النخبة، يحميه من التعرض لاختراق من قبل مليشيات وكيلة لطهران. كما أن الأميركيين يحولون دون خروج التنافسات الطائفية والإثنية داخل القوات المسلحة – بين الأكراد والعرب مثلاً – عن السيطرة.
كما أن الوجود العسكري الأميركي في العراق أساسي من أجل تحقيق المصالح الأميركية في الحي الأوسع أيضاً. فالأكراد السوريون، الذين كانوا حلفاء في القتال ضد «داعش»، يتلقون الإمدادات عبر شمال العراق. والأكراد على طرفي الحدود، وبعد أن انضموا إلى الولايات المتحدة وراهنوا عليها، صُدموا جراء الانسحاب من أفغانستان.
غير أن آخرين في الحي لديهم سبب للاحتفال بما حدث في كابول، ويأملون أن يتكرر ذلك قريباً في أربيل والسليمانية، المدينتين الكبيرتين في كردستان العراق، وبغداد. فـ«حزب الله»، مثلاً، سيرحب بانسحاب القوات الأميركية. وإمدادات السلاح التي يتلقاها يمكن أن تزداد كثيراً.
ومثلما أشار إلى ذلك زميلي «زيف تشافيتس» في صفحة الرأي بخدمة «بلومبيرج الإخبارية»، فإن انسحاب بايدن من أفغانستان جعل إسرائيل تشعر بقلق وتوتر. ولا شك أن من شأن انسحاب من العراق أن يترك أهم حليف لأميركا في الشرق الأوسط عرضة لخطر أكبر.
حلفاء آخرون في المنطقة بدأوا مؤخراً يتحوطون ويتوخون الحذر في توزيع رهاناتهم. ولا شك أن مؤهلات الكاظمي كوسيط نزيه تعتمد على وقوفه على بعد مسافة واحدة من العراق والدول العربية. والحال أنه إذا سُحبت الولايات المتحدة من الصورة، فهناك احتمال كبير لخضوع رئيس الوزراء لتأثيرات خارجية. وبدلاً من أن يكون العراق مكاناً حيث يستطيع الإيرانيون وعرب الخليج التباحث، من شأن ذلك أن يحوّل العراق بسرعة إلى منطقة نزاع، مع ما ينطوي عليه ذلك من تأثيرات مزعزعة للاستقرار عبر المنطقة.
ولهذا، فإنه على الرغم من حرصه على «الاستدارة» والانصراف عن شؤون الشرق الأوسط، إلا أنه يتعين على البيت الأبيض أن يدرك أن هذا الأمر سيتعارض مع المصلحة الوطنية الأميركية. والأمل هو ألا يستسلم بايدن لميولاته بالانسحاب – وأن يلتزم بالنهج نفسه في العراق.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»