هل نشهد بداية انحسار الموجة الشعبوية التي هيمنت على الديمقراطيات الغربية في العقد الأخير؟
الباحث الأميركي الذي كتب كثيراً في الموضوع «يوشع مونك» يرى في مقال خصصه للرد على هذا السؤال أن العالم الديمقراطي في طريقه للرجوع إلى الحياة السياسية التقليدية من خلال الأحزاب والشخصيات الليبرالية التي كان يعتقد أنها خرجت كلياً من مشهد الحكم.
من مؤشرات هذه المعادلة الجديدة، فشل حزب «التجمع القومي» في فرنسا الذي تتزعمه اليمينية المتشددة مارين لوبن في الحصول على رئاسة أي مجلس إقليمي في الانتخابات الجهوية الأخيرة، في الوقت الذي حققت أحزاب اليمين واليسار العريقة مكاسب ملموسة في الاقتراع المذكور.
في ألمانيا، تدل كل استطلاعات الرأي أن حزب «البديل الألماني» الذي فاجأ المراقبين بصعوده في انتخابات 2013 فقد الجانب الأوفر من قاعدته الانتخابية، وهو الاتجاه نفسه في اليونان وهولندا، بل وفي المجر نفسها التي هي مركز الشعبوية غير الليبرالية في أوروبا.
في الولايات المتحدة الأميركية، يرمز نجاح الرئيس بايدن لهذا التحول الذي يبدو أن البرازيل في طور الانتقال إليه.
الأطروحة التي يدافع عنها «مونك» هي أن الأنظمة الشعبوية تظهر مع الأزمات السياسية والمجتمعية، وتفشل عند أول تحد حقيقي، ومن هنا ندرك إخفاقها في معالجة الأزمة الصحية الحادة التي يعرفها العالم كله منذ سنة ونصف.
لهذه الأطروحة بعض الوجاهة، فلا أحد ينكر أن الموجة الشعبوية الأولى التي عرفتها أوروبا ما بين الحربين هي نتاج الأزمة الاقتصادية العالمية الخانقة سنة 1929، في حين أن الموجة الحالية لها علاقة وثيقة بالأزمة المالية العاتية التي عصفت بالمنظومة الرأسمالية العالمية سنة 2008.
بيد أنه لا يمكن اختزال أسباب الحالة الشعبوية في هذا العامل الأوحد. ففضلاً عن انعكاسات العولمة الاقتصادية على البنيات المجتمعية السياسية في الدول الليبرالية التي غدت تعيش استقطاباً حاداً بين اعتبارات الهوية القومية وحقائق القولبة الكونية الشاملة، فإن الفكرة الديمقراطية نفسها تختزن التوتر الإشكالي بين التصور الإدماجي الحيوي للأمة من حيث هي رابطة عضوية بوعي مشترك والتصور الإجرائي التنوعي للمجموعة السياسية، الذي هو عماد الآليات التمثيلية الانتخابية.
ومن هنا، فإن الليبرالية وإن كانت هي المنظومة الفكرية والتمثلية الناظمة للديمقراطيات الحديثة في محورية قيم الحرية والتعددية والتسامح التي تتأسس عليها، إلا أنها قد تصطدم بمبدأ السيادة القومية للأمة الذي يعلو على كل خيارات مجتمعية أو فكرية.
ومن هنا يصبح السؤال العصي هو: ما هو الحل عندما تتعارض النظم الديمقراطية والقيم الليبرالية؟
ماذا يحدث عندما تتحول الأغلبية الانتخابية إلى كيان أحادي الصوت والوعي يحتكر الهوية الجماعية باسم الأمة أو الضمير الوطني والقومي؟
عندما يتحدث الرئيس الروسي بوتين عن «الديمقراطية السيادية» في مقابل الليبرالية الغربية، ويختار رئيس الحكومة الهونغارية «فيكتور أوربان» عبارة «الديمقراطية غير الليبرالية»، فإنهما يطرحان إشكالاً حقيقياً ليس مجرد انحراف مؤقت واستثنائي في الممارسة الديمقراطية، بل هو في صلب النظرية الديمقراطية الحديثة ذاتها.
السؤال المطروح هنا يتمثل في مدى قبول مصادرتين راسختين في الفكر الليبرالي الحديث هما: مصادرة الميل العقلاني الطبيعي والتلقائي لأفكار الحرية والتعددية والتسامح في حال حرية الاختيار والتمثيل، ومصادرة تماهي القاعدة الانتخابية مع الهوية السياسية الجماعية.
أما المصادرة الأولى فتنطلق من تمثلات إيديولوجية لا شيء يثبتها، إذ يبدو من الجلي أنه لا توجد علاقة بديهية بين آلية التمثيل السياسي وطبيعة الثقافة المجتمعية السائدة، ومن هنا ليس من الغريب أن تفضي المنافسات الانتخابية إلى صعود القوى غير الليبرالية وهزيمة التيارات التنويرية والحداثية التي لا تألو جهداً في التبشير بالقيم الليبرالية ونشرها.
أما المصادرة الثانية فتقوم على تعميم غير مبرر، ذلك أن القاعدة الانتخابية هي في العادة محدودة ضيقة، لا تعبر إلا عن خيار فئة قليلة في لحظة محدودة، من هنا الانزياح الخطير بين الزمن السياسي والزمن الانتخابي وبين الأقلية المصوتة والجمهور الواسع المشتت والمتنوع.
ما تكشف عنه الموجات الشعبوية هو هذا التوتر الإشكالي الداخلي في الفكرة الديمقراطية، فهي من جهة ردة فعل على هيمنة النخب الحزبية البيروقراطية على الشأن العمومي عن طريق التحكم في المسطرة الانتخابية الإجرائية، وهي من جهة أخرى بحث مستحيل ومأساوي عن وعي جماعي موحد في شكل أمة قومية مندمجة ومتضامنة في مواجهة سيطرة النخب التقنية المرفهة والمستلبة.