من المسلمات التي سادت عند فئات عديدة من الجهات الثقافية والاجتماعية والفكرية وعند الأفراد من كتاب وفلاسفة... إنه لا ديمقراطية من دون مناقشة، ولا حقيقة أيضاً بلا مناقشة، وهذه الحقيقة مرتبطة ارتباطاً عضوياً بضرورة وجود شفافية بين السلطات العمومية، والمكونات، تحول دون اختزالها أو اختصارها. لكن يبدو أنه منذ عشرات السنين باتت الحدود بين الاثنتين مشوشة، بل إنها تنامت اليوم مع تنامي وسائل التواصل الاجتماعية، حيث نشهد ظواهر متمددة، ومتنوعة عبر هذه الأدوات، من تبادل الشتائم العنصرية والإثنية والشخصية والأساليب الشعبوية.
هنا السؤال: كيف نحافظ على حرية التعبير (حتى النسبية) من جهة والحؤول دون انتهاكها من جهة أخرى وباسمها تماماً.
لكن كثيراً من الكتّاب والصحفيين يتساءلون هل تجاوزت بشكل سافر حرية التعبير؟ في كتاب صدر مؤخراً في باريس بعنوان «أنقذوا الحرية» للفيلسوفة مونيك كانتو سبرير، تعبر عن قلقها إزاء المخاطر التي تهددها، فمن ناحية هناك مطالبة بكلمة حرة وإن كانت عنصرية، ومن ناحية أخرى بروز رقابة (غير رسمية) باسم التقدمية النبيلة تضع حدوداً للقول والكتابة.
تقول الفيلسوفة: كل الأفكار مقبولة ما عدا أن يكون من أهدافها إسكات الآخر أو إعدام كل سجال، وها هي اليوم رهينة اتجاهين، من ناحية مطالبة بعضهم بحقهم بقول كل شيء بطريقة «متحررة» من كل التابوهات والمحرمات لتنطق بأفكار تتضمن كلاماً منتهكاً وتستخدم الحرية وسيلة لللإدلاء بآراء هي على حدود خرق القانون (والأعراف) خصوصاً العنصرية والاثنية والدينية. من هنا نشهد منذ عدة سنوات أن شخصيات عديدة محرومة من الدفاع عن نفسها، حتى في بعض جامعات الأوروبية، باعتبار أن لا مكان للسجال في أسئلة ملحة حتى قيم المساواة وحقوق الإنسان والتعبير ضد العنصرية وتطالب بمنعها. إنها التابوهات، تمنع باسم التابوهات: إنه القمع باسم الحرية.
أما أصحاب «الكلمة» الجامحة خارج «التابوهات»، فيهدفون إلى فرض هيمنتهم على الكلام الخصوصي والعمومي.. يطالبون بفتح سجالات ومناقشات لكن يصرون ويا للغرابة! أن يكونوا الوحيدين الذين علينا أن نسمعهم ونقرأهم، من دون أن يقرأوا أو يسمعوا كلامنا! يقررون باسم شعار فضفاض مفخخ ما يجب وما لا يجب أن يُقال. وهذا خروج على بديهيات المفاهيم التأسيسية للحرية، التي سطرت في القرن الثامن عشر، والتي ترقى إلى مستويات رفيعة من مناقشة حقوق الإنسان، وها هي اليوم على غير استقرار وعلى غير وضوح.
لكن، الأخطر أن مزاولة هذا النوع من الحرية السجالية المفتوحة – المغلقة لم تعد تقتصر على النخب، ولم تعد تمثل أفراداً بل هويات وثقافات وإثنيات، خصوصاً في المجتمعات التعددية، مطالبة بالاعتراف بها كأقليات وهوامش وسواها، وهذا بالذات ما أفضى ويفضي إلى خطر أشكال التفكك والشروخ. وهنا بالذات يجد الفرد نفسه مستهدفاً بهذه الظواهر الشمولية.
الكاتب الكبير «جون استيوارت جيل» تنبه إلى هذه الظاهرة، فدافع عن حرية التعبير باستثناء ما يسبب أذىً موضوعياً بالآخر، ويدعو إلى معاقبة هذه الطرائق، وخصوصاً تلك التي تمس جوهر الانتماءات التاريخية والثقافية (كالأديان، والإثنيات، والهويات الجماعية...)، ذلك لأن هذه الانتهاكات تتجاوز الأذى اللفظي أو الشكلي إلى ما هو أدهى: تفكيك المجتمعات (التعدديات) وضرب الانتماءات والوشائح، وتحرض على الكراهية والحقد نافية قيم التسامح والتمازج والتلاقي والانفتاح، لذلك، نرى أن كل استباحة لمكونات مجتمعات (متنوعة) يصيب كل الأطراف، ويهدد أحياناً باندلاع حروب أهلية من نوازع شتى، مذهبية، وعرقية، ومدنية.