ليس للعراقي وهو يشاهد هذه الأيام ما اتفق الكربلائيون على تسميته بـ«اعتصام المرأة الواحدة» إلا أن يضع يده على قلبه خوفاً من أن تباغته رصاصة «غير طائشة» بسبب تبنيه موقفاً سياسياً معيناً، أو بسبب تعبيره العلني عن تبرمه ونفاد صبره من تحكم الميليشيات المسلحة التابعة لإيران بحاضر ومستقبل بلده.
تدور الأم المكلومة منذ أيام في فضاءات سوداء بحثاً عن «عدالة ملونة»، تنتقم بسيفها من «قتلة مجهولين» أخذوا منذ شهرين، روح ابنها «إيهاب الوزني» ودسّوها في الغياب الأبدي.
تذهب لمؤسسة القضاء فلا تجد حكماً منصفاً، وتعود للجهات الأمنية، فتجد الأبواب مقفلة في وجهها. تتحدث للسياسيين فلا يجيبوها، وتصيح لمسؤولي الأمم المتحدة الموجودين في العراق، فلا يصيخون لها سمعاً ولا يردون لها طرفاً!
هكذا يموت العراقيون هذه الأيام. يموتون من القهر وقلة الحيلة، ثم يقررون الموت من الخوف، ثم يموتون برصاصات« غير طائشة»، ثم يموتون بغياب الحقيقة في غيابهم الأخير.
مات إيهاب الوزني في ميتته الثالثة لأنه طالب باستقلال الموقف السياسي العراقي عن إيران، ولأنه كمواطن ناشط في التعريف باختراقات إيران للمنظومة العراقية بهدف استخدام العراق والعراقيين كمنصة للسيطرة على ما يليها من البلاد العربية في الهلال الخصيب. وها هو اليوم يموت في ميتته الرابعة حزناً على الميتة الثانية لأمه، وحسرة على غياب حقيقة قتله.
اليوم، لم يعد خافياً على من يرصد الأوضاع من خارج العراق مثلي، أن يعرف أن منظومة «القهر وقلة الحيلة والخوف والرصاصات غير الطائشة وغياب الحقيقة»، التي كانت سمة للحالة الأوتوقراطية في زمن «صدام حسين»، انتقلت بكامل بشاعتها لتلتحق بالحالة «شبه الثيوقراطية» في زمن سيطرة «الأحزاب الشيعية المسلحة»، فعمليات القمع وانتهاكات حقوق الإنسان والقتل خارج إطار القانون ما زالت قائمة حتى اليوم بصورة أبشع وأكثر إجراماً، لكن الفرق في الحالتين أن الأولى كانت تتم بأوامر الرجل الديكتاتور الواحد، بينما تنفذ الثانية بنظام المؤسسة الديكتاتورية الطائفية.
كان «حكم الرجل السُني الواحد» خلال فترة صدام حسين قمعياً للنخب السياسية على اختلاف مرجعياتها ومذاهبها وبرامجها السياسية. هذا صحيح، إلا أن المواطن البسيط شيعياً أو سنياً أو كردياً كان يتمتع بحد أدنى من الحركة الاجتماعية والدينية، ويعيش تحت مظلة الكفاية الاقتصادية ويمارس حرياته ما عدا السياسية منها، بينما يفرض «حكم التعددية الشيعية» الجديد نظام «السجن المفتوح» على الطوائف غير الشيعية والجماعات المناهضة لإيران سواء أكانت تتعاطى السياسة أم لا تتعاطاها.
خرج العراق من ديكتاتورية صدام حسين ليدخل بمعاونة أميركا وإيران إلى ديكتاتورية الديمقراطية الشكلية الزائفة. خرج من الزمن الذي كان فيه المواطن السياسي منبوذاً ومحاصراً ومعتقلاً ومقتولاً، ليدخل في عصرمحاصرة وسجن وقتل المجاميع، التي لا تؤمن بولاية الفقيه، ولا تتبنى الرؤية الإيرانية.
لقد خرج العراق من الدولة «الديكتاتورية المدنية» ليدخل بفعل «فاعلين اثنين» إلى الدولة «الديكتاتورية الطائفية»، والثانية كما أعرف ويعرف الكثير أخطر بكثير من الأولى وأقرب إلى الجحيم.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ
*كاتب سعودي