إنها التكنولوجيا تستبدل أدوات بأدوات وسلعاً بسلع وابتكارات بابتكارات: من الراديو الثابت إلى الترانزستور (المحمول)، ومن الأسطوانة إلى الكاسيت، ومن المكواة بالفحم إلى المكواة الكهربائية، ومن الورقة والقلم وقبلها الريشة والدواة ثم قلم الرصاص والممحاة إلى الآلة الكاتبة.. وهكذا دواليك. وكما تحل نظرية علمية محل أخرى، وفكرة تزيح أخرى، هكذا هي الأدوات اليومية وغير اليومية تتراجع الواحدة لمصلحة الأخرى، بأدوار وتقنيات ووظائف جديدة. وكلنا يعرف أن هذه الأدوات اليومية هي من مكونات حياتنا ومن التراكمات العلمية والاجتماعية التي تحدد أحياناً قسمات مرحلة بعينها.
العالم هو مجموع هذه التقنيات اليومية. وكلما اختفت تقنية أو آلة اعتدناها، نشعر كأننا نأسف على أشياء حميمة فقدناها، أي جزء من عالمنا المركب الذي ينتقص يوماً بعد يومٍ بفضل تطور التكنولوجيا الذي لا يرحم. أحياناً يخدم الإنسان في جوهره المجتمعي وأحياناً يخذلهُ.
قبل سنوات، ظهر الهاتف المحمول ليهزم الهاتف الأرضي الثابت، الذي يتحول خردةً ومجرد أثر أو ذكرى أو ديكور. لكن ما جمع الاثنين في المنطلق هو استمرار الاتصال بالصوت (آلو!)، تحمله في جيبك، أو في يدك ليصبح ملازماً لك مثل ظلك، يرافقك في كل الأمكنة، في الشارع، في العمل، في المكتب، في المسرح والسينما.
بات الهاتف الخليوي في مدة قصيرة حاجةً ملحةً، يكاد حاملها يدمنها، كأي سلعة أو أداة اتصال، ثم توالت الإضافات إليه، وها هو في الفيسبوك طليعتها.
وها هي أدوار جديدة غير معهودة تزرع في هذه الآلة، من خلال التسابق التجاري العالمي، حتى باتت كل شركة تجترح له وظيفةً غير مسبوقة، عبر ما يسمي أجيالاً أو أرقاماً: ترمي الجيل السابق وتشتري اللاحق، وهي «لعبة الاستهلاك بامتياز». ومهما يكن فقد اختزل الهاتف في جسمه الصغير مهمات عديدة: آلة كاتبة تسجل، تقطع، تختزن وثائقنا، ووقائعنا، وحركاتنا، وعلاقاتنا، وأفكارنا، وتجاربنا، وكتاباتنا وكتبنا ومذكراتنا وخواطرنا في مختلف المجالات.. وآلة تصوير (أحد المخرجين الفرنسيين أعلن أنه سيصور فيلماً بواسطة الخليوي!).
وتحول كل صاحب خليوي مصوراً حتى يكاد يظن نفسه مصوراً احترافياً، وأغلقت بسبب ذلك مئات محال التصوير الفوتوغرافي! وبات يقتصر عملها على تصوير الجوازات والهويات، لا أعراس ولا مهرجانات عندما كان المصور نجمها. كأن الهاتف صار كل أرشيفنا، من نصوص وصور ومكالمات وعناوين ورسائل وكتب ومعارض.. بات بكل بساطة مكتبة العصر (في جيبك) وأرشيفه.
هذا الكائن العجائبي، لم يعد مجرد أداة اتصال (كلاسيكية) لتكتشف مع مرور الوقت، ومن خلال ظهور «تويتر» و«انستغرام» و«واتساب» أنه بات يلعب أدواراً ربما أكبر منه، قد يستوعب من يستخدمه، وبدلاً من أن يستوعبه مستعمِله، ها هو يستوعبه ويقوده إلى الإدمان، ليؤثر إلى حد كبير في تكوين الفرد والمجتمع، وفي التربية، والثقافة، والعلاقات الإنسانية. كأنه بات خطراً محْدقاً، مع اتساع دوره، خصوصاً في سوء استخدامه، ليطاول تهديده الأمكنة نفسها (لا الأشخاص)، الأمكنة الخصوصية كدور السينما، والمكتبات عندما تصبح الشاشة الصغيرة مكاناً للقراءة، والكتابة من شعر وقصة ومقالات.
ولعلّ خطره المطبق امتد إلى الصحافة الورقية، فسقط منها ما سقط وتزاوج ما تبقى منها بين الجريدة والموقع الإلكتروني: ولم تسلم المؤتمرات ومعارض الكتب، والمهرجانات هي أيضاً، لتصبح ندواتها الفكرية ولقاءاتها، عبر الشاشة الرقمية، أي عبر التباعد الافتراضي.
كائن صغير يحمل عالماً بلا حدود، إنه الخليوي. لكن السؤال: إذا كان هذا الخليوي لم يعد مجرد أداة اتصال، فهل صار أداة تباعد؟ وهل باتت الأمكنة والأجسام الإنسانية مختزلة بكلمة أو رمز على هذه الشاشة العجائبية؟
*كاتب لبناني