يشكل التكامل المعرفي وما يحويه من دلالات قيمة، حالة ضرورة، لا يمكن إلقاؤها على جانبي رصيف «الكماليات»، أو الثانويات في دراسة وإنتاج الصناعة الفقهية التي تقتات عليها أفئدة وعقول المسلمين، ومن جانب آخر فإنها حلقة الوصل المرنة والكفؤ في تشبيك «العلاقات الناجحة» بين العلوم الإسلامية، وكل من العلوم الاجتماعية والإنسانية، فهي السبيل للخروج من «زقاق» أحادية العلم، وتكسير حواجز الإبستمولوجية الغربية السائدة بين مسالك المعرفة المختلفة، والتي لا تكون دون حشد علمي ناضج لكبرى القضايا الماسة لجوهر العلم أولاً، ثم إبراز نقاط التداخل والمؤسسة للضوابط والنظم الجديدة للمعرفة الإنسانية، والتي من شأنها إعادة اعتبار قيم التفكير، والتدبر، وبمعنى آخر، لابد من تقديم الحكمة على المادة.
ومن ناحية أخرى، فإن الإبحار في سبر البحث التداخلي، بين العلوم يقدم وسيلة أساسية لبث روح الإبداع في النشء والباحثين والمفكرين، لأنه يربي ملكة القيام بما يسميه إدغار موران «Morin Edgar» بعمليات «إعادة الربط»، التي تمثل عمليات ذهنية معقدة لن ينجزها إلا عقل مبدع فعال.
تنبه العلماء منذ وقت طويل للتفاعل القائم بين العلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية، باعتباره تفاعلاً إلزامياً وفطرياً، يجري بعلاقة تبادلية وتكاملية.
فقد اعتبر الرازي، أن الإلمام باللغة العربية له مكانته الواجب تحقيقها ولا يمكن استثناؤها من عملية إصدار الأحكام وترجيح الأدلة وفهم المقصود، فقال: «اعلم أن معرفة اللغة والنحو والتصريف فرض كفاية، لأن معرفة الأحكام الشرعية واجبة بالإجماع، ومعرفة الأحكام من دون معرفة أدلتها مستحيل، فلا بد من معرفة أدلتها، والأدلة راجعة إلى الكتاب والسنة، وهما واردان بلغة العرب ونحوهم وتصريفهم، فإذن توقف العلم بالأحكام والأدلة، ومعرفة الأدلة تتوقف على معرفة اللغة والنحو والتصريف، وما يتوقف على الواجب المطلق، وهو مقدور المكلف، فهو واجب، فإذن معرفة اللغة والنحو والتصريف واجبة».
وفي تأطير اللغة العربية -على سبيل المثال لا الحصر - اعتبره آخرون أنه علم آلة بالنسبة للعلوم الشرعية «كالشاطبي»، الذي اعتبر أن العلوم المضافة للقرآن الكريم تنقسم إلى أقسام: «قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من فوائد، والمُعين على معرفة مراد الله منه كعلوم اللغة العربية التي لا بد منها»، والذي اشترط إسناد علم لعلم الاجتهاد، تتوقف صحة الثاني عليه، قائلاً: «الأقرب في العلوم إلى أن يكون هكذا علم اللغة العربية، ولا أعني بذلك -يقول- النحو وحده، ولا التصريف وحده، ولا اللغة، ولا علم المعاني، ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلقة باللسان، بل المراد جملة علم اللسان، ألفاظاً أو معاني، كيف تُصورت». الحديث عن التكامل المعرفي بين العلوم الإسلامية، وبين العلوم الاجتماعية والإنسانية، يمثل الجسر الحضاري المستنير لتحقيق أنسنة العلوم، بالتزامن مع خدمة النص الشرعي وتبيان مقاصده الجلية، فهو العملية الأنجع في إخصاب المعارف، والتنويع في ما بين وحدات التحليل للظواهر العلمية، والإنسانية المعقدة، من خلال عدة وجوه، دون التقيد خلف «قضبان الجمود»، الأمر الذي يفرز للمجتمعات المسلمة عامةً، وفي دول الغرب خاصةً، فقهاً معاصراً يرتكز على أساسه الوثيق، وتتحد فيه ضوابط العلم، بالمطالب الإنسانية السامية.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة