حفلت الأسابيع الفائتة بأعداد قياسية من المفاجآت والانقلابات في المواقف والمواقع، ومن تظهير (أو تفعيل) ما كان مضمراً أو مستبطناً.. مما وضع أمام اللبنانيين وسواهم حقائق، وإن لم تكن غريبة أو مستجدة، فقد بدت سافرةً. لقد أكدت كلها ما كان معلناً بطريقة غير مباشرة، أو منكراً بغير إحراج معلَّلاً بالمجازات والإشارات. ونظن أن إطلالة حسن نصر الله المتلفزة الأخيرة كشفت «المستور» (خصوصاً في خطبه السابقة)، أو الأحرى أضاءت الزوايا الحادة، وتعللت بالوقاحة الصافعة لآداب التعاطي ومخاطبة الآخرين.
وجاءت إطلالته متعددة «الوجهات»، سخية «بالرسائل» نحو الداخل والخارج، لتكشف عمق الانقلاب الذي كان يهيئه على مراحل، وقطعة قطعة، كأنما يعلن (كما كان يفعل أهل الانقلابات العسكرية في العالم الثالث) البيان الأول. وانقشع ما كان عند البعض مبهماً من أن الرئيس عون وصهره الوزير باسيل، لا يعدوان كونهما أدوات مطواعة للمخطط الانقلابي في ما يمكن تسميته «الحل الأخير».
أما في ما يختص بالرسائل السياسية فهي متنوعة بنبراتها، سواء إلى الداخل أو الخارج، تحت عنوان كبير: «أنا المرشد، والمرشد أنا»؛ مرشد الاثنتين (الدولة والدويلة)، على كل الأصعدة القضائية، والحكومية، والاقتصادية، والبرلمانية، وحتى العسكرية. وهذا ما يفسر من موقعه «السلطاني» تأنيبه قائد الجيش جوزف عون لعدم قمعه بالقوة حراكيين قطعوا الطرق المؤدية إلى الجنوب، وتوبيخ حاكم مصرف لبنان، وتحميله وحده مسؤولية انهيار الليرة، وإصداره فرماناً له بضخ الدولارات في السوق، وتغيير مواقفه السابقة (كعادته) من الحكومة العتيدة التي كلف تأليفها الرئيس سعد الحريري، بانحيازه إلى حكومة «تكنوسياسية» وهذا تأكيد على ما عبّر عنه عون وصهره، معززاً مواقفه بالتهديد بتفعيل حكومة تصريف الأعمال كوسيلة ضغط على الحريري، ليقبل بالثلث المعطّل الذي يصادر هذه الحكومة ويتحكم بمصيرها.. ولم يتعفف لسانه «الطليق» عن الغمز من قناة البطريرك الراعي وسمير جعجع.
ونظن أن هذه المواقف كلها تصب أولاً في عرقلة تأليف الحكومة إلى ما بعد مفاوضات النووي مع الولايات المتحدة، وإبقاء لبنان ورقة ضغط بيد طهران، أو قصاصة مقايضة. وهي رسالة مزدوجة من رسائل أكد فيها «السيد حسن» موت المبادرة الفرنسية، وأخرى إلى بوتين بعد تأييد هذا الأخير سعد الحريري لتأليف الحكومة. بل إن كلماته المتدافعة تصيب مرمى الاتحاد الأوروبي الذي أيد حكومة اختصاصيين.. دون أن يوفر بعض العرب الذين دخلوا على خط الأزمة وأبدوا استعداداً للمساعدة في حل عقد تأليف الحكومة.
لكن المضمر الأهم وراء كل هذا الغبار، نسف مؤتمر الطائف، والسعي إلى جلب اللبنانيين إلى مؤتمر جديد لوضع دستور جديد، أو تعديل الدستور بطريقة تقلص فيها صلاحيات رئيس الحكومة، ويسمح للحزب بإكمال هيمنته على كل مفاصل الجمهورية. فالثلث المعطل يسلّم أي حكومة لغير رئيسها بل لمن يختاره «حزب الله» (حالياً الرئيس عون وصهره)، لكن الصمود الذي أبداه سعد الحريري برفضه انتقاص عون (ووراءه الحزب) من صلاحياته واعتبار نفسه «مشاركاً» في التأليف، يضاف إلى ذلك موقف رؤساء الحكومات السابقة (ميقاتي، سلام، السنيورة) الداعم للحريري، وحثه على عدم الرضوخ.. كل ذلك قد يفرمل «جنوح» الحزب (وتابعه عون) لمتابعة مخططاته الاستيعابية، ومشروعه الذي لا يهدد الحكومة فقط، بل كيان لبنان نفسه، ووجوده، وسيادته، واستقلاله.
*كاتب لبناني