مر عام منذ وقوع الاقتصاد الأميركي ضحية توقف مفاجئ وشديد بسبب فيروس كوفيد-19. وما اتضح منذئذ، خاصة مع المقارنة بالتوقعات المتفق عليها في وقت مبكر، يخبرنا بالكثير عن القوة الكامنة في الاقتصاد ونقطة ضعفه. فقد تسبب الإغلاق في الربع الثاني من 2020 في زعزعة استقرار شديدة لكل نواحي المجتمع الأميركي. وكان التأثير على الاقتصاد سيئاً جداً. فقد انهار الإنتاج المحلي الإجمالي متقلصاً 31%. وارتفع معدل البطالة أكثر من 14%، ومبيعات التجزئة انخفضت بشدة أيضاً بنسبة 15%، رغم التحول الكبير المتمثل في انتقال الاستهلاك إلى الإنترنت.
ومن نافلة القول إن الاقتصاد الأميركي لم يكن الوحيد الذي عاني مثل هذا الهبوط العنيف. فقد انخفض الإنتاج المحلي الإجمالي العالمي بشدة، وتقلصت التجارة بنسبة 19% حول العالم. وفي ظل مثل هذه الصدمة للنمو والتجارة، لا غرابة في أن يتنبأ محللون كثيرون بعام وخيم حقاً بصفة عامة لكل من الاقتصاد الأميركي والاقتصادات العالمية، حتى قبل إدراك أنه من المحتمل حدوث تصاعد متكرر ومضنٍ في الإصابات بالفيروس وفي استقبال المصابين في المستشفيات وارتفاع في أعداد الوفيات. لكن بحلول نهاية العام، أدهشت الاقتصادات معظم المحللين بصعودها.
فقد اقتصر التقلص في الاقتصاد الأميركي في عام 2020 على 3.5%، وهو ما مثل النصف تقريباً مما توقعه البنك الدولي وآخرون في يونيو الماضي. ومعدل البطالة انخفض نصف ما كان عليه في قمته. بل كانت الدهشة أكبر من صعود مبيعات التجزئة بارتفاعها ما يقرب من 7%. وكان لعودة التعافي لنشاط التصنيع أثر مساعد في هذا أيضاً، ممثلاً جزءاً من الظاهرة العالمية التي جعلت التقلص في تجارة البضائع يقتصر على 6%، فيما يتجاوز أداء التجارة في الخدمات التي تقلصت 16%. وهذا قلص الضرر الذي لحق بالتجارة ككل إلى 9% وبالإنتاج المحلي الإجمالي العالمي إلى أكثر من 3% فحسب.
وهناك ثلاثة عوامل أدت إلى هذه النتائج التي كانت أفضل من المتوقع، والأهمية النسبية لها تتفاوت بين الدول.
الأول يتمثل في الاستجابة الملحوظة في السياسات الاقتصادية، المدعومة بثلاثة مبادئ قوية وهي عدم البخل بشيء ومشاركة الجميع ودخول الحكومة بكل ثقلها. وكان هذا واضحاً بشكل خاص في الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث عملت الحكومات والبنوك المركزية سوياً، وضخت سيولة لم تكن متخيلة من قبل في الأسواق وللشركات والأفراد.
والعامل الثاني تمثل في النجاح في التغلب على انتشار إصابات الفيروس والتداعيات على الحياة ومصادر الدخل وأنظمة الصحة. ومثلت الصين استثناء إيجابياً وسط الاقتصادات المهمة، وساهمت بنسبة 2% من النمو الإيجابي في عام 2020 ككل.
والعامل الثالث هو عبقرية وحيوية وإقدام القطاع الخاص في الاستجابة، سواء منفرداً أو بالشراكة مع القطاع العام تجلت في سرعة خارقة توصل بها العلماء إلى لقاحات في بريطانيا والولايات المتحدة.
لكن المفاجآت الإيجابية المشجعة كدر صفوها ضحية أخرى مبكرة، لكنها مازالت قائمة، من ضحايا كوفيد وهي الإضرار بالتعافي الشامل الذي يدعم نسيجاً اجتماعياً متماسكاً. فقد اتفقت الآراء في بداية الأمر أن الفيروس لا يحترم الحدود، سواء كانت جغرافية أو اجتماعية اقتصادية، أو متعلقة بالنوع أو العرق. لكن كما حذرت أنا ومايكل سبنس في يونيو الماضي، قد يتضح أن فيروس كوفيد-19 عامل مهم في عدم المساواة ليس فقط في الدخل والثروة، لكن أيضاً في الفرص. وهذا أصبح مشكلة أكثر خطورة قائمة بذاتها تمتد تداعياتها فيما يتجاوز التوقعات الاقتصادية، وتتطلب انتباهاً مركزاً وعاجلاً في السياسة من الحكومة والشركات.
فبيانات مكتب إحصاءات العمل، تظهر أن الأميركيين الحاصلين على تعليم جامعي من البيض شهدوا تعافياً أفضل بشكل غير متناسب في الوظائف. وهذا ارتبط بشكل وثيق بمستويات الدخول أيضاً. ففي عام 2020، توسعت الوظائف لمن يحصلون على أجور كبيرة - تزيد دخولهم على 60 ألف دولار في العام- بنسبة 1.2%. وانخفضت وظائف أصحاب الدخول المتوسطة- تتراوح دخولهم بين 27 و60 ألف دولار في العام- بنسبة 4%. وانخفضت الوظائف وسط أصحاب الدخول الأدنى- تقل رواتبهم عن 27 ألف دولار في العام- بنسبة محبطة بلغت 19%.
والأميركيون البيض الحاصلون على درجات جامعية، يمثلون أيضاً الغالبية العظمى من حملة الأسهم بنسبة 90% ومن المشاركين في صناديق الاستثمار بنسبة 83%، بحسب بيانات الاحتياط الاتحادي. ولهذا استطاعوا أيضاً تحسين مكانتهم النسبية والمطلقة من الثروة، ويرجع الفضل في هذا في جانب كبير إلى الدعم الاستثنائي في سياسة الاحتياط الاتحادي للأسواق المالية. وهذا أيضاً يثبت عدم التوازن داخل الجماعتين المحظوظتين والمتداخلتين؛ لأن نسبة 1% الأغنى في المجتمع تستحوذ على أكثر من 50% من إجمالي الثروة. والواقع أن «فوربس» قدرت أن إجمالي ثروة أصحاب المليارات الأميركيين زادت بشكل مذهل بلغ 1.3 تريليون دولار أو بنسبة 44%. ولنقارن هذا بتحدث 24 مليون أميركي بالغ، في الآونة الأخيرة، عن عدم توافر الغذاء الكافي خلال العام الماضي.
ولم يتفاقم عدم المساواة في الدخل والثروة فحسب، بل اتسعت فجوة الفرص أيضاً. ويوضح هذا بقوة حديث كثير من المعلمين عن انقطاع عدد كبير جداً من طلاب من خلفيات اجتماعية هشة اقتصادياً عن الدراسة بسبب الافتقار إلى الاتصال الملائم بالإنترنت وأجهزة الكمبيوتر ومكان للمذاكرة وغيرها، بعد عملية التحول من الدراسة داخل الفصول إلى الدراسة عن بُعد. هذا بالإضافة إلى حديثهم عن تراجع الإنجاز وسط الذين ظلوا يواصلون الدراسة. ثم هناك الصحة. فقد كان كوفيد مدمراً بشكل خاص لصحة وحياة الأقليات والفئات الهشة الأخرى في المجتمع.
وعند تأمل العام الماضي، يجب أن نستمد بعض الراحة مما لم يحدث، سواء كان هذا عدم حدوث كساد اقتصادي كان من شأنه تحطيم سلامة الأجيال الحالية والمستقبلية، أو عدم حدوث تصاعد متواصل في معدلات البطالة التي كان من شأنها بدء عقد ضائع من البطالة واسعة الانتشار، طويلة الأمد، واضطرابات عقلية. ويجب الاستجابة أيضاً على ما حدث من التفاقم الشديد في عدم المساواة في الدخل والثروة والفرص والصحة. وكلما طالت فترة عدم الاستجابة على هذه المشكلات، زاد احتمال أن تعرقل عوامل الدفع الإيجابية التي أدهشت المحللين.
*محمد العريان
* أحد أعضاء الفريق الاستشاري الخارجي لصندوق النقد الدولي، ورئيس كوينز كوليدج بجامعة كامبريدج والمستشار الاقتصادي البارز في شركة اليانز ورئيس شركة «جرامسي فاند مانجمنت» لإدارة الاستثمارات في الاقتصادات الناشئة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»