عرف عن الشخصية العربية اعتدادها بنفسها واعتقادها بكونها من سلالة «كنتم خير أمة أخرجت للناس»، دون الانتباه إلى صيغة الماضي في الفعل الناقص «كان». وما يزال البعض من العرب لم يستوعبوا العبر والدروس والمواعظ الكثيرة في هذه الآية القرآنية الكريمة، كما لم يستوعبوا عبَر التاريخ وتجاربه. وحتى في أيام الجاهلية كان العرب يعتدون بأنفسهم العفيفة وشخصياتهم القوية في التعامل مع الآخرين.. وكانوا يشيدون بكرماء القوم وبأشجعهم وأشدهم بأساً وقوةً وأنفةً.
ولا زالت هذه الأمة تدفع ضريبة تلك التركة الثقيلة التي ورثتها، لذلك تجد الصراعات والمنازعات مستمرة فيما بينهم وفيما بينهم وبين غيرهم. وما زالت أمة العرب تدفع ضريبة هذه التركة المتوارثة، لذلك تجدهم يميلون إلى الحرب ونادراً ما يتقنون أسلوب المفاوضات وما يتطلبه من ذكاء ودهاء!
وقد تجلى هذا الأسلوب في تركيبة الشخصية الثأرية التي توارثها العرب خلال تاريخهم، ومجّدها تراثهم وسيّرهم. فالتاريخ العربي مليء بالقصص والبطولات التي تثبت اعتزاز العربي بتاريخه وأصله وقوميته، قبل أن يأتي الدين الإسلامي الحنيف ويشذب هذه الروح، ويضفي عليها طابع التسامح في التعامل مع الآخر بالتي هي أحسن.
لكن العرب ظلوا متمسكين بقيمهم العالية وعاداتهم الأصيلة وإرثهم الزاخر بالكبرياء والمروءة والاعتزاز بالنفس، مما أفقدهم الكثير من حقوقهم المسلوبة جراء الفخر والتعنت والتصلب.
لقد فقدوا أوطاناً ومدناً وممتلكات، والآن بدؤوا يفقدون موروثهم وتاريخهم وقيمهم بعد أن فقدوا مساحات كبيرة من الجغرافيا.
ومع قدوم النظام العالمي الجديد، الملبد بالغيوم والشكوك والجوائح والسياسات السلبية (الظاهر منها والباطن)، أصبح العرب بين فكي كماشة؛ التمسك بالدين والتمسك بالقومية، ثم دخلت عليهم رياح سموم الطائفية لتنخر المجتمعات والأوطان من الداخل، كما ينخر المرض الخبيث الجسم لينهكه ويقضي عليه تدريجياً!
ولم تعد بعض العواصم العربية، قادرة على استيعاب أبنائها الذين تغنوا بها وكتبوا رواياتهم الجميلة ومذكراتهم الخالدة وسيرهم العطرة فيها، بعد أن أنهوا دراساتهم في مدارسها المرموقة، وقضوا فترة شبابهم بمقاهيها التاريخية الرائعة، وهم يستمعون إلى أغاني الطرب العربي الأصيل التي كانت ولا زالت تحفر في الذاكرة، . لقد أصبح كثير منهم الآن يتسكعون على أرصفة المدن الأوربية في الشتاء القارص، ليتعلمون لغاتها حتى يتفاهموا مع موظفي مكاتب اللاجئين، ولكي يشرحوا مطالبهم اليومية البسيطة متمثلة في الحصول على حبة إسبرين أورغيف خبز، بعد أن كانوا أسياداً في بلدانهم العربية! وهذا يقع في مدار ما ذهبنا إليه حول كبرياء وأساطير الرجولة التي ما عادت تصرف بأي بنك مهما كان!
كثير من المفكرين والساسة العقلاء يندبون حظهم العاثر، لماذا لم يحتووا خصومهم وجيرانهم ومَن نازعهم، وهي استراتيجية تتبناها الدول والمنظمات العاقلة، حتى خلال الحرب الباردة وفترة الاسترخاء في وصف العلاقات الدولية، وانتظار استبدال الوضع أو النظام بآخر؟ إن ذلك أفضل من الصدام الذي لا زالت الدول العربية تدفع ثمنه باهظاً، بسبب السياسات الفردية والأهواء المزاجية التي كثيراً ما تكلف الدول والشعوب والمجتمعات دماءً وأموالا، فضلا عن العقول النادرة التي قُتلت أو هاجرت تبحث عن ملاذ آمن من أجل سد رمق العيش في الغربة!
*كاتب سعودي