يحتل الدين مكانة مهمة في العلاقات الدولية المعاصرة، بل في أحيان عديدة، يصبح أهم من المصالح البراجماتية واستخدام القوة المادية لوقف الصراعات بين بعض المجتمعات والإثنيات والشعوب والدول. إلى جانب ذلك، يمثل «الدين» عاملاً محورياً لخلق التسامح والتعاون. سنعرض هنا أهم التحولات التي قادت إلى بروز الدين في العلاقات الدولية، وإلى أي مدى يستطيع الدين تحقيق السلام بين الدول والأمم كأداة في السياسة الخارجية؟
صعد دور الدين في العلاقات الدولية المعاصرة منذ نهاية الحرب الباردة، مؤكداً فشل التنظيرات والمقولات الحداثية حول أن استمرار وانتشار التطور المادي والعلمي سيقلص من دور الدين بين الدول والعالم إلى حد كبير جداً، والتي في جوهر أمرها كانت متأثرة بالنظرية العلمية التطبيقية. حقيقةً، لم تعد الصراعات مبنية على الصراعات الأيديولوجية كما كانت في حالة الحرب الباردة، بل أخذت بماهية الهوية الاجتماعية العرقية والقومية والدينية. وهذه الهوية الاجتماعية أخذت مستويات مختلفة من التنافس لتحقيق المطالب الذاتية، والتي بدروها أثرت على تماسك المجتمعات في دولها، وما قد يحدث من صراعات طائفية في الدولة الأم. كما أن هذه الصراعات قد تنتقل إلى دول أخرى عبر الهوية الاجتماعية.
فالصراعات النابعة من الهويات الاجتماعية قادت إلى أهمية الدين في العلاقات الدولية ليس فقد للكشف عن أسباب الصراع، بل مراجعة أدوات السياسية الخارجية والدبلوماسية، فأدوات السياسة الخارجية كانت وما زالت تعتمد بشكل كبير على سياسات القوة المادية في تحقيق المصالح المادية والتفاوض بين الدول. في حين أن الصراعات المبنية على الهوية الاجتماعية لا تنجح معها السياسات المادية في كثير من الأحيان، بل معالجتها تحتاج إلى حضور عوامل معنوية واجتماعية بين الدول وعلى مستوى الدولة الأم، مثل حماية الهوية الاجتماعية من الانهيار وخلق دولة المواطنة الكاملة، واستخدام الدين لوقف الصراعات الداخلية والخارجية عبر الرموز الدينية، والتي تحركهم الدوافع الروحية للسلام والأمن ومحاربة التخلف والفقر بعيداً عن مصالح الدول البراجماتية.
فهؤلاء الأشخاص الذين يمثلون الدين من منطلقات روحية وإنسانية يجب فتح الأبواب لهم في العلاقات الدولية لحل مشكلات الصراعات المرتبطة بالهوية الاجتماعية. وفي هذا الجانب، كانت الولايات المتحدة الأميركية تدرس مدى جدوى، وأهمية وضع ملحق ديني ضمن مؤسسات وزارة الخارجية، وذلك لأهمية أخذ الدين كعامل رئيسي في فهم والتنبؤ وحل الكثير من الصراعات المرتبطة بالمجتمعات، إلى جانب الأنظمة الثيوقراطية والحركات والاحزاب ذات الطابع الديني. وعليه فإن الملحقيات الثقافية التابعة لمؤسسات الوزارة الخارجية للدول لا بد لها من تعزيز دور الدين في علاقاتها الخارجية، وأيضاً في توفير معلومات دقيقة وسليمة عن المجتمعات والشعوب والحراك الاجتماعي السياسي المرتبط بالدين.
مع أهمية الدين في فهم الصراعات بين المجتمعات على مستوى الدولة الأم وعلى مستوى العلاقات الدولية، وأيضاً في استخدام الدين في السياسة الخارجية لحل القضايا الدولية، فإن الدين يجب تعزيز دورهُ كمنبع للأخلاق والسلام والتسامح والتحاور والتعاون في مكافحة التحديات التي تواجه الإنسان من فقر وتحقيق العدالة والحياة الكريمة وصون الحقوق الجسدية والمعنوية. ولا نبالغ أبداً في القول بأن الدين يستطيع تعزيز السعادة بين الشعوب عبر قبول الآخر المختلف في هويته الاجتماعية، وليس عبر التقوقع على الذات.