لعل أغنية «نيل سيداكا»، وعنوانها «الانفصال صعب»، الصادرة عام 1962، تكتسي أهمية جديدة لزوج من المطلقين السياسيين: بريطانيا والاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 بلداً. وعلاوة على ذلك، فإن انفصالهما الصعب له تداعيات واسعة. وبعد أن انتقل انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من الخطاب إلى الواقع، أخذ هذا الأخير يلفت الانتباه بطريقة درامية إلى صراع سياسي مهم في عالم اليوم، ألا وهو الصراع بين القومية الساعية لتأكيد الذات والتحالفات الدولية.
السبب الفوري للخلاف كان الوباء. فقد قالت الشركة الإنجليزية السويدية «أسترازينيكا»، التي تعد أحد صانعي اللقاحات الرئيسيين في العالم، قالت للاتحاد الأوروبي إنه سيحصل على كمية أقل بملايين الجرعات من الكمية التي كان من يتوقع أن يتوصل بها هذا الربيع، بسبب ضغط غير متوقع على الإنتاج. فعمد الاتحاد أواخر الشهر الماضي إلى الحد من الشحنات الموجهة إلى بريطانيا من المصانع الأوروبية حيث تُصنع العديد من اللقاحات.
لكن سرعان ما تراجعت بروكسيل عن ذلك التهديد، إلا أن الخلاف أبرز الطريقين المختلفين تماماً اللذين سلكهما الاتحاد الأوروبي وشريكه السابق الذي انفصل عنه مؤخراً. ذلك أن بريطانيا اعتمدت اللقاحات واشترتها وبدأت في توزيعها بسرعة وفعالية أكبر من الاتحاد الأوروبي الممركز. فهل يعني هذا أن نموذج بريكست أكثر نجاحاً؟ وأن الاتحاد الأوروبي، بسيادته المشتركة وسياساته المنسقة، هو من بقايا فكرة الترابط والتعاون العالميين التي باتت تبدو سيئة الآن؟
الواقع أن الأمر لم يحسم فيه بعد، فهناك اختبارات كبيرة تنتظر الجانبين، في ردهما المستمر على الجائحة ومهمة التعافي الصعبة بعدها. وبالنسبة لبريطانيا، فإن إحدى المشاكل المطروحة هي الانكماش الاقتصادي المحتمل جراء بريكست. ذلك أن أكثر من نصف التجارة البريطانية هو مع بلدان الاتحاد الأوروبي، ومنذ أن دخل اتفاق بريكست حيز التنفيذ في يناير الماضي، أدت الحاجة الجديدة للتصديق على احترام لوائح الاستيراد التابعة للاتحاد الأوروبي إلى شكاوى للشركات من الاضطرابات والتأخير والتكاليف الباهظة.
هذا مع العلم بأن اتفاقاً حول وصول الاتحاد الأوروبي إلى قطاع الخدمات في بريطانيا، والذي يُعد الدعامة الأساسية لاقتصادها، لم يستكمل بعد.
وسياسياً، غطّى الوباء على تأثير كل هذه الأمور. ولئن كان رد رئيس الوزراء بوريس جونسون الأولي على «كوفيد- 19» قد تعرّض للانتقاد باعتباره متفاوتاً ومرتبكاً في أحيان كثيرة، فإنه كان أكثر نجاحاً في تأمين اللقاحات وتوزيعها.
غير أن اختباراً للمزاج الشعبي أخذ يقترب ويتمثل في الانتخابات المقررة في مايو المقبل، للحكومات المحلية في إنجلترا وبرلماني ويلز واسكتلندا، الأمتين الأخريين المكونتين للمملكة المتحدة. والحال أن استطلاعات الرأي في اسكتلندا تشير إلى أن الاستياء من الرد الحكومي على الوباء وبريكست، التي عارضها معظم الناخبين الاسكتلنديين، قد يعني فوزاً كبيراً للحزب القومي الاسكتلندي. وإذا حدث ذلك، فإن هذا الأخير تعهد بالضغط في اتجاه استفتاء حول الاستقلال، والسعي بشكل منفصل للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
غير أن الاتحاد الأوروبي يواجه تحديات معقدة أيضاً. فبريكست لا تمثل مصدر قلق اقتصادي كبير له، نظراً لأن كلفتها الأكبر ستقع على بريطانيا. لكن ومثلما أبرز النزاع حول اللقاح، فإن الاتحاد الأوروبي يواجه ضغطاً للجواب على حجة بريكست السياسية: أن البلدان تكون أفضل حالاً إذا أدارت شؤونها الخاصة بدلاً من الاعتماد على صانعي القرارات المركزيين البطيئين وغير المستجيبين أحياناً داخل الاتحاد.
ولعل المثير للسخرية هو أن رئيسة الفرع التنفيذي في الاتحاد الأوروبي أوضحت هذه النقطة بنفسها لدى دفاعها عن طريقة تعاطيها مع نزاع اللقاح، إذ قالت أورسولا دير لين: «إن بلداً (بمفرده) يمكن أن يكون مثل قارب سريع. أما الاتحاد الأوروبي، فهو أشبه بناقلة نفط».
كما كشف الوباء عن توترات كبيرة. فالرد الأولي للاتحاد الأوروبي كان غير موحّد البتة. إذ تهافتت الدول بشكل منفرد العام الماضي على شراء معدات الحماية الطبية اللازمة، كل لحسابه الخاص. وكان القصد من استراتيجية الاتحاد الأوروبي المشتركة بشأن اللقاحات هو تصحيح ذاك الخطأ. وبشرائه اللقاحات بكميات كبيرة، أراد الاتحاد الأوروبي تجنب وضع تشتري فيه البلدان الغنية كل الإمدادات بينما تضطر الأخرى للانتظار.
لكن وسط الطرح البطيء للقاح، فإنه حتى دول مثل ألمانيا اتخذت ترتيبات منفصلة مع شركات اللقاح قصد تعويض حصة الاتحاد الأوروبي. ومن جانبها، أعلنت المجر أنها قد تشرع في تلقيح سكانها بلقاح «سبوتنيك 5» الروسي، الذي لم يعتمد من قبل السلطة المنظِّمة في الاتحاد الأوروبي.
والآن فإن «ناقلة النفط» تبحر ببطء، لكنها ما زالت تستطيع تصحيح نفسها عبر إظهار أنها قادرة على أن تجلب لمواطني الاتحاد الأوروبي المزايا اليومية التي تأتي من القوة العددية.
إنه امتحان مهم، وفرصة أيضاً، وسيأتي على شكل صندوق بقيمة 900 مليار دولار رصده الاتحاد للتعافي خلال فترة ما بعد الوباء، وخاصة بالنسبة لدوله الأكثر تضرراً من الناحية الاقتصادية. وغني عن البيان أن مدى نجاح الاتحاد الأوروبي في هذا الباب، أي نجاح جهوده في الإقناع بأهمية التكتل والتعاون والعمل الجماعي بدلاً من السير بشكل منفرد، سيكون مهماً داخل أوروبا وخارجها.
ذلك أن هناك حججاً مماثلة يُدفع بها في بلدان أخرى. فقد شكّل ذلك فرقاً بارزاً في الرؤى بين الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وخلَفه الرئيس الحالي جو بايدن الذي دافع عن أهمية عمل الديمقراطيات معاً. وخلافاً لترامب، عارض بايدن بريكست. والآن، لا شك أنه يأمل أن يتمكن الاتحاد الأوروبي من التغلب على تحدياته الجديدة.
*صحافي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»