عرفت الولايات المتحدة الأميركية فترات من الانعزالية وأخرى من التدخل تخللتها أيديولوجيات ليبرالية أو محافظة موسومة بالبراغماتية. والإدارة الأميركية الحالية، والتي تشكل في نظري فترة رئاسية ثالثة لأوباما، تجد نفسها في مرحلة حساسة من التاريخ وتحاول أن تقطع قطيعة تامة مع الفترة الترامبية السابقة وهي تراجع تموقعها في النظام العالمي. وهنا السؤال الذي يمكن أن يطرحه العديد من الاستراتيجيين: هل ستتحول أميركا من الانعزالية إلى التدخل؟
في بداية سياستها الخارجية، كان للولايات المتحدة الأميركية موقف انعزالي، فهي لم تكن لتهتم مثلاً بالشؤون الأوروبية، وكانت ترفض التدخل الأوروبي في النصف الشمالي من القارة الأميركية، فأطلق على هذا التوجه المذهب الانعزالي الذي عرف رواجاً في عام 1823 مع مذهب مونرو نسبة إلى الرئيس الخامس لأميركا. ومع ذلك، ورغم إملاءات الانعزالية، فإن أميركا طردت بالقوة إسبانيا من كوبا والفلبين، لكن حصلت أول قطيعة مع هذا المذهب سنة 1917 عندما أعلنت أميركا الحرب على ألمانيا، ثم في سنة 1941 حين تبنت أميركا سياسة خارجية تدخلية. وفي فترة الحرب الباردة، كانت هناك مواجهة أيديولوجية وأحياناً عسكرية بشكل غير مباشر، بين أكبر قوتين في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وكان من مظاهرها انقسام العالم إلى معسكرين: شيوعي يتزعمه الاتحاد السوفييتي وليبرالي تتزعمه الولايات المتحدة.
مع انهيار الاتحاد السوفييتي، كان شعار «التدخل» هو السائد، وكان هذا واضحاً في مناطق مثل أفغانستان والعراق وسوريا والصومال.. وأودى التدخل الأميركي بحياة الآلاف من الجنود وكانت التكلفة المالية باهظة جداً، إذ تم صرف ما يزيد عن 6 تريليونات دولار أميركي في هاته الحروب من دافعي الضرائب الأميركية. في سنة 2002 عرضت إدارة جورج بوش وثيقة «استراتيجية الأمن القومي» تحت تأثير «المحافظين الجدد». وتهدف تلكم الاستراتيجية إلى الحفاظ على عالم أحادي القطب حتى تكون فيه الولايات المتحدة الأميركية القوة العظمى الوحيدة التي تسود العالم. تم استبدال مفاهيم «الردع» و«الاحتواء» بمفهوم «الحرب الوقائية» ومفهوم «تعددية الأطراف» بمفهوم «الأحادية».
وفي سنة 2008 انتخب مرشح الحزب الديمقراطي باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، وهو المنصب الذي شغله على مدى عهدتين متتاليين. ومنذ البداية امتنع عن طرح توجه توسعي لسياسته الخارجية، واختار أن يلتزم بالاعتبارات العملية والأحوال المتغيرة. ولم يعتمد على القيم الأخلاقية المجردة أو القوة العسكرية الخشنة، بل على العلاقات والمصالح المشتركة مع الأمم الأخرى، وفي ذلك يقول أوباما: «لنتذكر أن الأجيال السابقة لم تسقط الفاشية والشيوعية بالصواريخ والدبابات فقط، بل بالتحالفات المتينة والقناعات البينية المستديمة».
وستعود بعض من ملامح «الانعزالية» مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض، والذي تجاوز بجرأة أدبيات «عملية الحكم» التقليدية وتجاوز الروتين الذي تقوده إدارات الأمن والاستخبارات، وتبنى شعار «أميركا أولا» كقاعدة أسمى في سياسته الخارجية، وحاول تصحيح أخطاء أو تنازلات الرئيس أوباما في مرحلته (بما في ذلك المسألة الإيرانية) والتي كانت في نظره سبباً في تراجع أميركا عالمياً.
ومع وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، ستعود أجزاء كبيرة من الإرث الدبلوماسي الأوبامي إلى الواجهة، خاصة وأن جل الذين يزيد عمرهم عن خمسين سنة اشتغلوا في إدارة أوباما السابقة، بمن فيهم أنتوني بلينكن، وزير الخارجية المقرب من بايدن وأحد المؤيدين للتعاون متعدد الأطراف في إطار المنظمات الدولية.. وقد انتقد مراراً انعزالية وأحادية إدارة ترامب. وهو ما يظهر من إجراءاته هذه الأيام خاصة العودة إلى اتفاق باريس لحماية المناخ، والبقاء في منظمة الصحة العالمية، وإيلاء المزيد من الاهتمام للمشاكل العالمية، ومحاولة حل الأزمات، والدفاع عن الديمقراطية العالمية. لكن في هذا الجانب الأخير أظن أن أميركا ستخفق لعدم نجاح إدارة أوباما في ذلك، وللظروف الخاصة التي تمر بها أميركا حالياً والتي لا يمكن أن تدعي بسببها المثالية الديمقراطية، ويكفي وأنا أكتب هذه الأسطر أن أسمع الرئيس بايدن يقول إنه بالرغم من عدم إدانة ترامب بتهمة التحريض على التمرد، فإن 57 عضواً في مجلس الشيوخ و7 أعضاء جمهوريين، صوتوا لإدانته. وأوضح أن هذا الفصل الذي وصفه بالحزين من تاريخ البلاد يشير إلى أن «الديمقراطية هشة، وأنه يجب دائماً الدفاع عنها».