منذ نحو 76 عاماً، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي سياق السعي لبناء نظام اقتصادي عالمي جديد أكثر استقراراً، وتجنباً لأخطاء العقود السابقة التي أسفرت عن خسائر فادحة، اجتمعت في يوليو 1944، في بريتون وودز بولاية نيو هامشر، وفود من 44 بلداً لإنشاء مؤسستين تحكمان العلاقات الاقتصادية الدولية، وقد ركز المجتمعون اهتمامهم على تجنب تكرار الإخفاقات التي مر بها مؤتمر باريس للسلام الذي وضع نهاية للحرب العالمية الأولى (الأزمة المالية العالمية عام 1929)، فرأوا أن تأسيس بنك دولي للإنشاء والتعمير من شأنه العمل على استعادة النشاط الاقتصادي، وأن إنشاء صندوق نقد دولي من شأنه المساعدة في استعادة قابلية تحويل العملات والنشاط التجاري متعدد الأطراف.
ولعل أهم تمايز بين المؤسستين أن الصندوق يهدف إلى ضمان استقرار الأنظمة المالية، بما فيها سعر صرف العملات ومساعدة الدول الأعضاء على وضع برامج لسياساتها الاقتصادية عند مواجهتها للمشاكل، بينما يهدف البنك إلى تقديم المساعدات المالية للدول الفقيرة، لإجراء الإصلاحات وتنفيذ مشاريع محددة، مثل بناء المدارس والمراكز الصحية وتوفير المياه والكهرباء. وتختلف كذلك قروض الصندوق وهي قصيرة الأجل نسبياً عن مساعدات البنك الطويلة الأجل.
وأمام تداعيات جائحة كورونا، تواجه المؤسستان تحديات كبيرة، قد تتجاوز قدرتهما على مساعدة الدول الأعضاء، نظراً لضخامة الخسائر التي لحقت وتلحق بمسيرة الاقتصاد العالمي, والتي توقع صندوق النقد أن تصل نحو 12.5 تريليون دولار خلال عامي 2020 و2021، وقد تصل 35 تريليون دولار، مع احتمال امتداد تداعيات الأزمة حتى عام 2025، وذلك نظراً لازدياد الشكوى من هدر الأموال وانتشار الفساد في حكومات عدد من الدول، وفشل القطاع العام في تنفيذ المشاريع المتفق على تمويلها.. مما يعرقل تحقيق التنمية المستدامة. لذا يتركز التمويل الدولي على دعم القطاع الخاص، والترويج للمشاريع الاستثمارية المشتركة، وتشجيع بيع المؤسسات الحكومية التي يديرها القطاع العام لاستثمارها من قبل القطاع الخاص.
ولوحظ في هذا المجال، أن البنك الدولي خصص 60% من ميزانية مواجهة تداعيات كورونا البالغة 14 مليار دولار للقطاع الخاص، علماً بأن 68% منها ذهبت إلى المؤسسات المالية. أما القروض التي حصل عليها القطاع العام (40%)، فجاءت بشروط تتعلق بتحرير الأسواق وخصخصتها، ورفع الحمايات التجارية. ويتبين من دراسة نشرتها «الشبكة الأوروبية للديون والتنمية»، أن توزيع المبالغ يشير إلى توجهات البنك الدولي السلبية تجاه القطاع العام، وتقطير حصوله على المبالغ التي يحتاجها. فمن أصل 8 مليارات دولار التي حصل عليها القطاع الخاص، استحوذ القطاع المالي على 5.7 مليار دولار، وكان للمصارف النصيب الأكبر. وخلافاً لما يدعيه البنك بأن المستهدف من هذا الدعم هو المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، لتعزيز صمودها في مواجهة تداعيات الأزمة، فقد تبين من الأرقام (وفق الدراسة) أن 50% من الأموال الموجهة للقطاع الخاص تلقتها شركات مملوكة بأكثريتها من شركات متعددة الجنسيات، أو شركات تمثل جزءاً من تجمع شركات دولية. حتى أن التمويل الممنوح للقطاع العام، جاء بشروط تنص على تنفيذ إصلاحات لتعزيز مشاركة القطاع الخاص الأجنبي في الاقتصاد الوطني، وتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في تعزيز قدرة القطاع العام على فرض أجندته الخاصة بالنمو.
ويبدو أن هذا التطور، يأتي ضمن رؤية البنك الدولي لعام 2030، لتوسيع التمويل من أجل التنمية، بحيث يعطى القطاع الخاص أولوية قصوى من أجل استدامة الاستثمار، ويعتمد البرنامج استراتيجية ممنهجة ومحددة، بهدف تعزيز تطور القطاع الخاص من خلال تحويله إلى محرك أساسي لخطط التنمية المرتبطة بتقديم الخدمات العامة.
*كاتب لبناني مهتم بالقضايا الاقتصادية