البرازيل هي أكثر دول أميركا اللاتينية تضرراً من كورونا، حيث بلغ عدد وفيات الفيروس 160 ألفاً. كما تستعد البلاد لموجة ثانية من الفيروس، دون أن تخف قط حدة الموجة الأولى. لكن هناك كارثة أكثر اعتياداً تتصاعد الآن؛ ألا وهي التضخم. فبعد الربع الأول من العام الجاري، والذي كان صعباً للغاية، حيث انهار الناتج الصناعي بنسبة بلغت 27% (بين فبراير وأبريل)، هناك تعافٍ يتحرك. وفي الربع الثالث تحسن التصنيع البرازيلي ليصل إلى ما يقرب من مستوياته ما قبل الجائحة، في تقدم على الجيران المتضررين من الوباء. وظهر عدد مثير للدهشة من الوظائف في القطاع الرسمي بلغ 313564 وظيفة في سبتمبر الماضي، وإن يكن هذا في غمرة بطالة قياسية.
لكن غير الجيد هو أن الأسعار ترتفع فوق المستويات التي كانت تريدها الحكومة وتنبأت بها الأسواق. والتضخم يبلغ نحو 3%. لكن قياساً على عدم اتساق السياسة في برازيليا، مازال من المستبعد حدوث تعاف مستدام يحتاجه الاقتصاد المحوري في المنطقة. ويمكن إلقاء اللائمة على البنك المركزي شديد الحرص، الذي أبقى سعر فائدة الإقراض عند مستوى 2% حتى في الوقت الذي تتحرك فيه السوق المحلية. ومع التردد المالي للبلاد، بين خرق أو عدم خرق سقف الإنفاق الحكومي، واقتراب الدين العام من 100% من الناتج المحلي الإجمالي، تقهقر المستثمرون لأسباب مفهومة.. وأصبحت النتيجة تصاعد كلفة خدمة الديون البرازيلية في وقت كان يجب تثبيتها.
ويمثل عبور الركود الذي أوجدته الجائحة تحدياً عالمياً للجميع. لكن الريبة الرسمية في البرازيل تزيد الأمور تعقيداً؛ فهناك تنافس بين الحرص في الإنقاق والتبذير في السيطرة على قائمة أولويات السياسة، والرئيس خايير بولسوناو يؤيد الجانبين في الوقت ذاته. فقد شق بولسونارو الذي ظل مشرِّعاً لفترة طويلة طريقه إلى السلطة، مستفيداً من استياء الجمهور ومقدِّماً وعده بفرض القانون والنظام والاستقامة والترشيد في الإنفاق.. لكنه اكتشف منذئذ سحر سخاء المال العام وسياسات المحسوبية وفوضى السياسة.
وحرص بولسونارو على استمرار أموال الطوارئ التي تقدمتها برازيليا بسبب الجائحة إلى أكثر من 67 مليون برازيلي، فيما يقوم بدور المدافع عن حجة الذين يحذِّرون من الإضرار بالميزانية وانتهاك السقف الدستوري للإنفاق إذا أصبح هذا الدخل الإضافي دائماً. وخلال العام الماضي، راهن بولسونارو على المواجهة، وتصادم علناً مع الأحزاب السياسية والأكاديميين ووسائل الإعلام، وسار بحكومته إلى أبواب المحكمة العليا التي من المفترض أنها غير متعاونة، كي يرضي أنصاره من الجناح اليميني.
وكانت النتيجة أن نقضت الهيئة التشريعية رقماً قياسياً من الاعتراضات الرئاسية على القوانين بلغت 24 نقضاً في أغسطس وحده. ورفضت المحكمة العليا أوامر تنفيذية بالسرعة نفسها التي أصدرها بها الرئيس.
والتصدي المؤسسي لم يؤد كثيراً إلى تحديث توجه بولسونارو السياسي في عملية إعادة بدء ضرورية للبقاء. ويواجه الرئيس طائفة من الاتهامات الموجهة له بسبب معالجته للجائحة والكوارث الأخرى. وتخلى بولسونارو عن خطابه الاستقطابي، منحياً جانباً أنصار الجناح اليميني المزعجين، وساعياً إلى الحصول على قاعدة دعم في البرلمان الذي طالما عارضه. وهذا التحول ضمن له ما يكفي من المقاعد لعرقلة مسعى مساءلته - التي يتطلب إجراؤها موافقة ثلثي أعضاء المجلس التشريعي- لكنه لم يفعل شيئاً لتقديم قائمة أولويات حكومية متماسكة أو القضاء على الجدل المحيط بالإنفاق.
ويرى أوكتافيو أموريم نيتو، المحلل السياسي في مؤسسة جيتوليو فاراجاس، أن «بولسونارو حقق تكتلاً مهماً من الدعم للبقاء، لكن ما زال يتعين على البرازيل تحقيق مصداقية مالية. وإذا لم يحدث ذلك، فقد تصبح في أزمة هائلة العام التالي». ولا تزال أمام بولسونارو فرصة لتجنب الاضطراب الاقتصادي إذا اتخذ قرارات صعبة. فكي يلتزم بسقف الإنفاق، وهو ما يراقبه الدائنون عن كثب لأنه معيار للسيولة، «يتعين على بولسونارو اقتراح تقليص كبير في الإنفاق الإلزامي» حسبما كتبت أدريانا دوبيتا، المتخصصة في شأن البرازيل لدى بلومبيرج. وأضافت أن الإصلاح الإداري قد يساعد، لكن ليس على الأرجح بالطريقة الضعيفة التي واجهت انتقادات على نطاق واسع والتي أرسلتها الحكومة إلى البرلمان الشهر الماضي.
وقد تقلص البرازيل الإنفاق الاجتماعي، وتغامر برد فعل من ملايين الأسر منخفضة الدخل، التي تعتمد على الدعم المالي في زمن الجائحة. وهناك حيلة جريئة يُقال إنه يجري الإعداد لها، وهي أن يستغل بولسونارو موجة ثانية من الوباء ليجدد بها «حالة الكارثة» في يناير المقبل، وبالتالي يعفي الحكومة من القيود القانونية على الميزانية، وفقاً لنشرة «تاج ريبورت» السياسية. ومهما يكن من أمر الخطة، ستعاقب السوق سريعاً أي حل يستتبع «التلاعب بالقواعد المالية»، بحسب قول دوبيتا.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»