الحقائق والمعلومات التي كشفها الأمير بندر بن سلطان، ضمن برنامج «وثائقي مع بندر بن سلطان» على شاشة قناة «العربية»، خلال الأيام الماضية، تعد شهادة للتاريخ، ليس فقط لأنها صادرة عن شخصية سياسية ودبلوماسية وأمنية رفيعة المستوى على إلمام كامل بملفات المنطقة بتفاصيلها كافة، وإنما أيضاً لأن هذه الشهادة تقدم تشخيصاً دقيقاً للمشكلة الرئيسية التي تواجه القضية الفلسطينية منذ عقود، والمتمثلة بالأساس في أصحابها، والذين لم يكونوا على قدر المسؤولية، فأهدروا العديد من الفرص، التي كان يمكن أن تحقق حلم الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة.
شهادة بندر بن سلطان أكدت بوضوح أن القيادات الفلسطينية، على مدار ما يزيد على سبعة عقود، لم تقم بدورها المأمول في الدفاع عن القضية الفلسطينية، وكانت تراهن دائماً على الأطراف الخاسرة التي تتاجر بالقضية وتزايد على معاناة الشعب الفلسطيني، ولم تكن لديها القدرة على القراءة الدقيقة لتطورات المنطقة، بدليل موقفها غير المسؤول من اتفاقيتي السلام بين كل من الإمارات ومملكة البحرين مع إسرائيل. الحقيقة الأخرى التي تضمنتها هذه الشهادة، هي أنه في الوقت الذي كانت فيه إيران وتركيا تتاجران بالقضية الفلسطينية لقرابة ربع قرن من الزمان وتوظفانها كستار لتنفيذ مشروعاتهما التوسعية في المنطقة، فإن دول الخليج كانت الداعم الرئيسي للشعب الفلسطيني، ولم تتركه في أي أزمة أو محنة، رغم مواقف السلطة الفلسطينية المناوئة للمصالح الخليجية، كما حدث إبان الغزو العراقي للكويت في أغسطس عام 1990.
لقد لخص الأمير بندر بن سلطان مأزق القضية الفلسطينية في الماضي والحاضر بوصف دقيق، حينما قال بأن القضية الفلسطينية «قضية عادلة، لكن محاميها فاشلون»، وهي بالفعل قضية عادلة كانت - ولا تزال - تحظى بدعم القوى الدولية وجميع شعوب العالم المحبة للسلام، لكن المشكلة كانت تكمن دائماً في مواقف القيادات الفلسطينية وطريقة إدارتها الخاطئة لهذه القضية، ففي الوقت الذي كان يفترض أن تعمل هذه القيادات على توحيد الصف الفلسطيني، وتبني رؤية موحدة في مواجهة المفاوض الإسرائيلي، فإنها - للأسف- أسهمت بمواقفها في تعميق حدة الانقسامات بين الشعب الفلسطيني، وقدمت الفرصة لإسرائيل لإثبات أنه لا يوجد شريك فلسطيني حقيقي يمكن الدخول معه في مفاوضات جادة لتحقيق السلام، وفي الوقت الذي كان يفترض أن تنأى بنفسها عن الصراعات والخلافات العربية البينية، فإنها أقحمت نفسها فيها، وكان الخاسر من ذلك هو الشعب الفلسطيني.
شهادة الأمير بندر بن سلطان، بما تتضمنه من صراحة ومكاشفة غير مسبوقة، تأتي في وقتها تماماً، لعل القيادات الفلسطينية تدرك الآن أنها لم تعد تمتلك رفاهية إهدار المزيد من الفرص في عالم يشهد تحولات متسارعة، والتي عليها أن تلم بكافة تفاعلاتها، وإلا ظلت أسيرة لرؤيتها الجامدة لعملية السلام، وبقيت رهينة في مواقفها لقوى إقليمية تتاجر بمعاناة الشعب الفلسطيني. كما لم يعد مقبولاً أن تستمر القيادات الفلسطينية في انتقاداتها لدول الخليج والتحريض عليها والتشكيك في مواقفها الداعمة للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، في وقت تبدو فيه الحقيقة جلية وناصعة البياض للجميع، فهذه القيادات هي المسؤولة عما آلت إليه القضية، نتيجة لتهربها من مختلف الحلول التي طرحت لتسويتها، والاستمرار في رهاناتها الخاسرة التي دفع الشعب الفلسطيني، ولا يزال، ثمنها الصعب.
في ظل حالة الجحود والنكران التي تبديها العديد من القيادات الفلسطينية من حين لآخر، والتي تتجاهل خلالها ما قدمته دول الخليج من دعم ومساندة للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة قد يكون من الضروري الآن، توثيق شهادة الأمير بندر بن سلطان، باعتباره شاهداً على العصر، وملماً بكافة تفاصيل الدعم الخليجي للقضية الفلسطينية على مدار العقود الماضية، وتوضيح ذلك للأجيال الجديدة من النشء والشباب في دول الخليج من خلال مناهجنا التعليمية، كي يفهموا أن المشكلة كانت دوماً في قيادات فلسطينية متكلسة أدمنت إضاعة الفرص، وسعت دوماً إلى تحميل غيرها مسؤولية إخفاقاتها في تحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني.
شهادة الأمير بندر بن سلطان تؤسس لخطاب سياسي جديد تجاه القضية الفلسطينية، يتسم بالواقعية والصراحة والشفافية ويسمى الأشياء بمسمياتها، دون مواربة أو مجاملة، وهو الخطاب الذي ينبغي أن يكون الأساس في التعامل مع السلطة والقيادات الفلسطينية في الحاضر والمستقبل، لأن الخطاب التقليدي المهادن أثبت فشله الذريع، وجعل هذه القيادات تتجرأ وتحرض على دول الخليج التي تحملت - وما تزال- الكثير من أجل الوقوف بجانب الشعب الفلسطيني والدفاع عن قضيته العادلة.. إنها لحظة المكاشفة والصراحة التي ينبغي استثمارها لتصحيح بوصلة مواقف السلطة والقيادات الفلسطينية، لتكون أكثر واقعية وحتى لا تهدر المزيد من الفرص التي ربما قد لا تتكرر في المستقبل، وحينها لن يفيد البكاء على اللبن المسكوب.
*إعلامي وكاتب إماراتي