قد يكون التأويل فهماً ذاتياً لمعرفة النفس قبل معرفة الآخر موضوعا أو ذاتا، لذلك كان هذا هو مطمح الفلاسفة دائما، والآية القرآنية تقول: «وفي أنفسكم أفلا تبصرون». تحقيق الوئام المعرفي مع النفس يسبق تحقيقه مع الآخر.
كانت الأحلام والسير الذاتية والاعترافات وأحاديث النفس (المونولوجات) بل والصمت مادة خصبة للتأويل. ففي الحلم يعبر الإنسان عن مكمونات النفس عندما يغيب الرقيب الذاتي والاجتماعي في حالة النوم ويستيقظ عالم اللاشعور. وظهر في كل حضارة تفسير الأحلام منذ شيشرون وابن سيرين حتى فرويد.
وفي «الاعترافات» لأوغسطين استرجاع بالذاكرة للسيرة الذاتية منذ أشكال الوعي الأول بالنفس وبالعالم حتى لحظة القص. تكشف عن معاني التجارب الإنسانية ودلالات مسار الحياة. لذلك حرص عديد من الفلاسفة على كتابة سيرهم الذاتية كنوع من تفسير أعمالهم في الشعور مثل السير الذاتية للغزالي، والكاردينال نيومان، وياسبرز، وجابريل مارسل، وبرتراند راسل، وعبد الرحمن بدوي أخيرا. وقبله عثمان أمين.
والتأملات نوع من السيرة الذاتية رأسياً وليس أفقياً في الحديث مع الله أكثر من الحديث مع النفس أو مع العالم. ومنها «الإيمان باحثاً عن العقل» أسقف كانتربري «انسلم»، و«التأملات في الفلسفة الأولى» لديكارت.
ويقوم تحليل النفس على القدرة على الاستبطان، وقلب النظرة من الخارج إلى الداخل، والتعبير عن مضمون الشعور. والمنهج الفينومينولوجي قادر على ذلك بعد أن بدأه «فيلهلم دلتاي»، فيلسوف وطبيب نفسي وعالم الاجتماع الألماني، و«برنتانو» باعتباره منهجاً وصفياً للتجارب الحية قبل أن يصيغه «هوسرل» منهجاً محكما، ويطبقه شيلر في وصف الظواهر الخلقية والاجتماعية. ومعظم فلاسفة الوجود، في الجسم عند ميرلوبونتي، وفي الوجود الإنساني عند جابريل مارسل وهيدجر وياسبرز، وفي التجربة الجمالية عند «جادمر»، وفي التجارب الدينية عند «بول ريكير».
الذات أيضا نص ولغة ومنطق وتركيب، هي نص لأنها مقروءة، ولغة لأن لها أشكالها في التعبير، ومنطق لأن لها تداعياتها الخاصة، وتركيب لأنها المكون الرئيسي للشخصية الإنسانية. بل إن قراءة النص بالمعنى الدقيق تعتمد على قراءة الذات باعتبار الذات مرآة كاشفة للنص في عمليات الفهم والقراءة والتأويل.
تأويل الذات سابق على تأويل الموضوع نصا أو علامة أو حدثا. وإذا كان «التأويل» اشتقاقا يعني الرجوع إلى الأول، فإن الأول هنا ليس في تجربة المفارقة أو التعالي، الأول في اللوح المحفوظ أو العلم الإلهي كما يقول الصوفية بل في الذات. ومعرفة الذات سابقة على معرفة الغير. ومن لا يعرف ذاته لا يستطيع أن يفهم الغير. لذلك بدأ إقبال بالذاتية كما بدأت بها الفلسفة «الترنسندنتالية» في الغرب عند ديكارت وكانط.
وفي الذات يتم انكشاف الآخر في القَصْدية. فالذات ليست فقط وجودا في العالم بل العالم أيضا وجود في الذات. وبعد فهم الذات صورة ومضمونا، عقلا ومعقولا بلغة القدماء يمكن استئناف التأويل مع العالم الخارجي، عالم الآخرين أو عالم الأشياء.
ولما كانت الذات وجوداً من أجل الآخرين أصبح التأويل ليس فقط فهماً للذات، بل أيضا فهماً للعلاقات بين الذات، علاقات المحبة والصداقة، والزمالة والجيرة من ناحية أو علاقة الكراهية والعداوة، والمنافسة والوقيعة، والحسد والحقد من ناحية أخرى. فالعلاقات الاجتماعية تدور حول معاني وعواطف وانفعالات ومصالح. وكل سلوك هو تأويل عملي بمعنى ما. لذلك كان التأويل موضوعا للعلوم السلوكية والعلوم الاجتماعية.
بل إن الجسد له لغته الخاصة فيما يعرف بلغة الجسد، حركات الإيماء والإشارة، وتحريك الأصابع والأيادي والأذرع والرأس بل والجسد كله كما هو الحال في التمثيل الصامت والرقص الإيقاعي من أجل الإيحاء بالمعاني إلى المشاهد، ونقل التجربة الجمالية له.
*أستاذ الفلسفة- جامعة القاهرة