تسبب وباء فيروس كورونا في أزمات مختلفة كثيرة في الولايات المتحدة وغيرها من المناطق. فقد مرض أكثر من خمسة ملايين أميركي، ولقي أكثر من 175 ألف حتفهم، وأصبح ملايين منهم بلا عمل. والإمارات العربية المتحدة أبلت بلاء أحسن بكثير فيما يتعلق بهذه النسب لعدد السكان. ويواجه الأميركيون حالياً مشكلة كبيرة سببها الفيروس، تتمثل في الضغط الهائل على المعاهد والجامعات الأميركية مع فتح أبوابها في العام الدراسي الجديد. وربما تشعر مؤسسات التعليم العالي في دول أخرى بهذه الضغوط، لكن الضغوط حادة بشكل خاص في الولايات المتحدة لعدة أسباب خاصة.
ويوجد خمسة آلاف مقر تقريباً لمعاهد وجامعات في أميركا، ويرتادها ما يقرب من 20 مليون طالب للدراسة في أغسطس عادة. والجامعات تكون مستعدة دوماً لهم، فالدورات الدراسية والقدرة الاستيعابية والغذاء وخدمات أخرى تكون متوافرة. لكن هذا العام الأمور مختلفة بسبب الجائحة. التحدي الأول يتعلق بإذا كان على الطلاب الانصات للمحاضرات في الغرف الدراسية، أم يجب عليهم التعلم عبر الإنترنت، افتراضياً. وتقدم جامعات أميركية كثيرة بالفعل دورات دراسية عبر الإنترنت، وتسمح للطلاب بالتعلم في المنزل. لكن الجانب السلبي يتمثل في أن هذه الطريقة تقلص التواصل بين الطالب والمعلم داخل وخارج الغرف الدراسية، والمفترض أن هذا التواصل مفيد تعليمياً.
ومسألة الاختيار بين التعليم الافتراضي والتعليم داخل الغرف الدراسية، أصبحت أساسية في التعليم العالي بسبب تزايد احتمالات الإصابة بفيروس كورونا، حين يجتمع الطلاب والمعلمون في الغرف الدراسية. ومعظم الجامعات التي تعتزم تنظيم الدراسة في الحرم الجامعي تشترط على الطلاب والمعلمين ارتداء كمامات والتباعد داخل الغرف الدراسية. لكن العدد الكبير من الطلاب في بعض الصفوف الدراسية سيتعين تقسيمهم لتحقيق مثل هذا التباعد، مما يتسبب في مشكلات لوجستية. وإلزام الطلاب بارتداء الكمامات طوال الوقت يمثل انضباطاً صارماً، ربما سيكون من الصعب الحفاظ عليه.
وبدأت بعض المؤسسات التعليمية بمزيج من التعليم في الغرف الدراسية والتعليم الافتراضي. لكنها وجدت أن التعليم داخل الغرف بلا جدوى رغم الاحتياطات. وعلى سبيل المثال، فتحت جامعة نورث كارولاينا التي بها 30 ألف طالب حرمها في وقت مبكر من أغسطس، من أجل تلقي العلم داخل الغرف الدراسية. لكن حدث على الفور تقريباً تفش لفيروس كورونا، مما دفع مسؤولي الجامعة إلى الإعلان في 18 أغسطس عن ضرورة العودة إلى التعليم الافتراضي. وتعين على أعضاء هيئة التدريس تعديل نشاطهم سريعاً إلى نمط تعليمي لا يألفه كثيرون منهم. وتعين على الطلاب تعديل برامجهم، كي يتكيفوا مع القواعد الجديدة.
والتحدي الآخر يتمثل في الضغط على موارد إقامة الطلاب. فقد اشترطت بعض الجامعات أن تتقيد نُزل إقامة الطلاب بعدد معين لكل غرفة لتقليص انتشار الفيروس. وقيدت جامعة ماساشوستس غرف إقامة الطلاب بأن يكون لكل طالب غرفة، وتعين عليها تأجير غرف في فنادق محلية لاستيعاب الباقي من الطلاب. ويتعين أيضاً أن يتكيف الطلاب مع حقيقة أن الولايات المختلفة الآن لديها قواعد مختلفة بشأن عبور حدودها بسبب الفيروس. وتشترط بعض الولايات أن أي شخص قادم إليها من ولاية بها معدلات إصابة أعلى بفيروس كورونا يتعين عليه الخضوع لحجر صحي لمدة أسبوعين. وهذا يضع عبئاً على الجامعة لتعثر على مكان إيواء للطلاب المفروض عليهم حجر صحي، والذين يتعين عليهم العيش وحدهم هذه الفترة.
وأحد الأمور المهمة تتمثل في أن الشباب الذين يحضرون الدروس في المعاهد والجامعات معتادون على التعارف الاجتماعي مع بعضهم البعض بعد الدراسة. وهذا قد يؤدي إلى تقارب شديد دون كمامات، فيما يمثل انتهاكاً للقواعد الصحية المفترض اتباعها. وطالب مسؤولو الجامعات، وأيضاً غالبية حكام الولايات، ورؤساء بلديات المدن الجميع بمراعاة التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات في حالة وجود تقارب اجتماعي. لكن تبين أن الطلاب يتجاهلون عادة القواعد، مما دفع بعض رؤساء الجامعات إلى مد نطاق القيود لتشمل ساعات ما بعد التقارب الاجتماعي، وهو الأمر الذي يتردد الطلاب عادة في تنفيذه. وجامعة كاليفورنيا في بيركلي، على سبيل المثال، حظرت على الطلاب تنظيم المناسبات الاجتماعية داخل وخارج الحرم الجامعي لأن الفيروس ينتشر بسرعة شديدة.
والجامعات التي بها نواد اجتماعية في حرمها، مثل نوادي الطلبة ونوادي الطالبات، تواجه مشكلة خاصة. فهذه النوادي ينضم إليها الطلاب ليلتقوا بالطلاب الآخرين خارج غرف الدراسة. وهذه النوادي معروف عنها إقامة حفلات مرحة يمكن أن تكون منطلقا لانتشار فيروس كورونا. ورغم أنها مؤسسات خاصة وليست خاضعة مباشرة لسيطرة الجامعة، لكن بعض الجامعات، مثل جامعة بنسلفانيا، أغلقتها لأنها من المحتمل أن تصبح بؤرة رئيسية لانتشار الفيروس. وجامعة كاليفورنيا في بيركلي تحولت من التعليم بحضور الأفراد، إلى التعليم عبر الإنترنت، وهذا يرجع في الأساس إلى اندلاع الفيروس في نوادي الطلبة والطالبات.
كما لدى كثير من الجامعات الأميركية أعداد كبيرة من الطلاب الأجانب الذين يمثلون مشكلة أخرى في زمن الجائحة. وعادة يكون هناك نحو مليون طالب أجنبي يتلقون العلم في المعاهد والجامعات الأميركية وهم موضع ترحيب فيها. وفي جامعة بوسطن، على سبيل المثال، هناك أكثر من عشرة آلاف طالب أجنبي من طلاب الجامعة البالغ عددهم 34600 طالب. ويستطيع كثير من الطلاب الأجانب على الأرجح الحصول على الدراسة عن بعد في ديارهم، لكن كثيرين منهم يريدون القدوم إلى الولايات المتحدة لأن مناهجهم الدراسية تتطلب تعلماً بالحضور في الغرف الدراسية، مثل التواجد في المعامل وورش الفنون. أو لأنهم يريدون استكشاف خبرة التعايش في قلب حرم جامعي أميركي. ومعالجة طلبات تقدم الطلاب الأجانب أكثر صعوبة بسبب الفيروس. كما يضاف كثير من هؤلاء الطلاب الأجانب إلى الطلاب الذين يتعين حجرهم صحياً، وفقا للدولة القادمين منها.
وكل هذه التحديات الجديدة أضافت أعباء مالية جديدة على المعاهد والجامعات الأميركية. والفيروس كلفهم بالفعل ما يقدر بنحو 70 مليار دولار. لكن بعض المؤسسات عانت أكثر من الأخرى. وعلى سبيل المثال، يعاني معهد «إيمرسون كوليدج» في بوسطن من فجوة تبلغ 33 مليون دولار في موازنته بسبب الفيروس. واضطر المعهد إلى إقالة أعضاء من هيئة التدريس ومن الموظفين وتقليص الرواتب. وفي المقابل لدى جامعة هارفارد أموال موقوفة عليها تبلغ 41 مليار دولار، وليست بحاجة إلى إقالة أعضاء من هيئة التدريس أو الموظفين أو تقليص خدمات الطلاب. الجائحة، إذن، وضعت ضغوطاً كبيرة على الجامعات الأميركية، لدرجة أنه تعين عليها أن تختار بين التعليم الافتراضي والتعليم في الغرف. كما يتعين عليها معالجة مشكلات إقامة الطلاب والمخالطة الاجتماعية بينهم وحسم الأعباء المالية الجديدة. ومازالت مساعيها مستمرة.
*دبلوماسي أميركي سابق متخصص في شؤون الشرق الأوسط