هناك شبح يهدد الديمقراطيات الغربية. إنه ليس تصاعد حالات الإصابة بفيروس كورونا وليس الموت الجماعي ولا البطالة الكارثية.. بل هو نهاية حرية التعبير وظهور «إلغاء الثقافة»، هذا إذا كنت تصدق دونالد ترامب وبعض منتقديه. فقد حدد ترامب التهديد الجديد للحضارة في كلمته في جبل روشمور معلناً أن الفاشيين من أقصى اليسار «يبعدون الناس عن وظائفهم ويلحقون الخزي بالمعارضين ويطلبون الرضوخ التام من أي شخص يختلف معهم».
وبعد أيام قليلة، نشرت مجموعة من الكتاب الشهيرين، خطاباً مفتوحاً في مجلة «هاربرز» يتفقون فيه على أن القوى «غير الليبرالية» متفشية في اليسار واليمين معاً وأن «التداول الحر للمعلومات والأفكار الذي يمثل دماء حياة المجتمع الليبرالي يتزايد تقييده كل يوم». ونظراً للتوقيت الغريب وطبيعة الشكوى، فلا عدوان إذا سألناهم: ماذا يقصدون؟ فلطالما استطاعت المؤسسات والأنشطة الاقتصادية فصل الموظفين حسبما يروق لها. وربما تصرفت قلة بعجلة أكبر في الشهور القليلة الماضية مخافة إلحاق الخزي بها علناً أو رغبة في الظهور بأنهم يواكبون روح العصر المعادية للعنصرية.
لكن العدد القليل من عمليات الإقالة بناءً على أسباب سياسية لم يكلف ترامب نفسه ولا منتقديه عناء ذكرها، تبدو ضئيلة أمام المأساة الإنسانية الهائلة التي تتكشف أمام أعيننا. فهناك مئات الملايين من الناس يفقدون وظائفهم وكرامتهم دون ارتكاب خطأ. وبالإضافة إلى هذا، لم تكن حرية التعبير أكثر توافراً مما هي عليه اليوم. وهذا بلغ درجة جعل خليط الأصوات المتنافرة الذي أطلقته وسائل الإعلام الرقمية يطغى في أكثر الأحيان على الآراء المتمهلة والقائمة على معلومات جيدة. وترامب الذي يطلق بنفسه عدة تعليقات مثيرة للجدل كل يوم يعتبر مثالا على التدفق اللفظي الذي أتاحه «تويتر» في السنوات القليلة الماضية. ومن الصحيح أيضاً أن مؤرخين واقتصاديين وعلماء اجتماع استطاعوا إجراء مناقشات على «تويتر» بجودة يتضاءل أمامها جانب كبير مما يظهر في صفحات الصحف والمجلات الكبيرة.
وهذا لا يعني القول إن التعبير أصبح مقيداً في وسائل الإعلام التقليدية. فبعد ما يقرب من 25 عاماً من النشر في طائفة واسعة التوجهات الأيدولوجية من صحف التيار الرئيسي والدوريات المتخصصة، يمكنني الإقرار بأن الحديث في كل شيء تقريباً، من الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية والأدب إلى علاقات الجنسين، لم تنتعش هكذا من قبل قط. ولم تعكس من قبل قط مثل هذا الطيف الواسع من الأصوات من الشرق والجنوب وأيضاً من الغرب والشمال.
وعلى سبيل المثال، في تسعينيات القرن الماضي، حين بدأت عملي كان من الصعب العثور على كتاب ومفكرين أميركيين أفارقة في دوريات التيار العام، ولم يكن يوجد تقريباً أي أصوات من الهند، ناهيكم عن أصوات من المناطق غير أنجلوفونية من آسيا. وكان هناك كاتب أو اثنان من المقيمين في الغرب يضطلعان بإلقاء الضوء على خبرات أمم برمتها، بل وقارات. واليوم تعكس المنافذ الإعلامية المحافظة، وأيضاً الليبرالية واليسارية، تنوعاً في الآراء والتحليلات. وجانب كبير من التنوع مازال مطلوباً لأن الخبرة الإنسانية تنمو باستمرار وهناك ناشرو كتب ومجلات كثيرون يحاولون مخلصين نشر هذا التنوع.
فهل من الممكن أن يمثل التنوع المتزايد في الأصوات وثراء النقاشات تهديداً لحرية التعبير، وبدقة أكثر، تهديداً لامتيازات المشاهير وأصحاب النفوذ بأن يتكلموا بإسهاب في كل الأمور دون مقاطعة أو اختلاف في الرأي؟. والفحص عن كثب أكبر لمنتقدي إلغاء الثقافة يعزز بالطبع الشك في أن كثيرين من الذين عينوا أنفسهم للدفاع عن حرية التعبير يفضلون مناجاة ذواتهم على الحوار مع الآخرين.
وترامب الذي دأب على الدفاع عن إقالة ومقاطعة معارضيه يمثل الممثل العالمي للأمور ذاتها التي يهاجمها. لكن القيم الليبرالية ليست مرعية على نطاق واسع أيضاً بين الموقعين على خطاب «هاربرز» المعادي لترامب. فبينهم كتاب شنوا حملة ضد أكاديميين لأسباب سياسية مثل باري ويس وكاري نيلسون. وبينهم أستاذ جامعي في حقوق الإنسان، مايكل ايجانتيف، حدد الصيغ «المسموح» بها من التعذيب. وبينهم صحفيون، بول بيرمان وديفيد فروم وآن آبلباوم، دافعوا عن الحرب غير المشروعة على العراق. وبينهم كذلك أستاذ في العلوم السياسية، ياشكا مونج، أشاد بالانقلاب العسكري الأخير في بوليفيا باعتباره انتصاراً للديمقراطية. وبينهم روائي، مارتين اميس، اقترح «حظراً على المسلمين» أقسى بكثير من الحظر الذي فرضه ترامب.
فإذا كان الضالعون في الهاوية الأخلاقية والمناخ السياسي يشعرون بأن هناك غضباً وإحباطاً منهم وسط الشباب، فهذا لأنهم لم يخضعوا قط للمساءلة. فربما يخسر ترامب انتخابات نوفمبر، لكن الكتاب والصحفيين والأكاديميين الذين وقعوا في كبوات بشعة وسوء أحكام مروعة سيظلون بمفازة من المحاسبة كما كانوا دوماً. ولا شك أن هذه الأقلية المترابطة فيما بينها ستظل تحمي امتيازاتها، باستثارة أخطار مختلفة على حرية التعبير. لكن يجب ألا يخلط أحد خوفها من تجاوز الزمن لها وفقدان صلتها بالأمر مع أي نوع من الليبرالية.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»