يعاني الاتحاد الأوروبي من كثير من المشاكل، لكن ربما أكبر تلك المشاكل هو الانقسام بين الدول الأعضاء الشمالية والجنوبية، وخط الصدع الأعمق الممتد بين الغرب والشرق. هذا التصدع الأخير يُعد خطيراً بشكل خاص لأنه، خلافاً للانقسام الاقتصادي أساساً الموجود بين الشمال والجنوب، ينقضّ على قيم الاتحاد الأوروبي الجوهرية، بما في ذلك الديمقراطية وحرية الصحافة وحكم القانون. ففي العقد الماضي، عمل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان على ازدراء هذه المبادئ وانتهاكها باسم «معاداة الليبرالية». وعلى امتداد نصف عقد من الزمن، أخذت بولندا تنحو تدريجياً في الاتجاه نفسه، عبر تقليص استقلالية القضاء وسياسات أخرى. غير أن بولندا يمكن أن تغيّر مسارها، وهذا التغيير قد يكون بدأ الأحد الماضي، حيث أُجريت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية البولندية، والتي تنافس فيها الرئيس المنتهية ولايته أندجي دودا ومجموعة من المرشحين. ووفق القانون، فإن رئيس بولندا غير مسموح له بالانتماء إلى أي حزب. والحال أن «دودا» كان عضواً في حزب «القانون والعدالة» («بيس» اختصاراً)، ويتمتع بدعمه الواضح، ويؤيد تشريعاته، ويروج لرسالته القومية الشعبوية المعادية لبروكسيل. وعليه، فلو فاز دودا بأغلبية، لبقيت بولندا على مسارها «المجري».
لكن دودا لم يحصل سوى على 42.9 في المئة من الأصوات، مما يستدعي تنظيم جولة ثانية من الاقتراع في 12 يوليو الجاري. وفي تلك الجولة من المحتمل أن يلتف كل الناخبين، الذين يرغبون في التغيير، حول المنافس الأقوى لدودا، وهو رافال ترزاسكوفسكي، عمدة العاصمة وارسو وصاحب الشعبية الواسعة، الذي جاء في المركز الثاني بنسبة 30.3 في المئة من الأصوات. وسيعد تقدم ترزاسكوفسكي، الذي يُعد ليبرالياً ومن أنصار الاتحاد الأوروبي، هزيمة مثالية لدودا ولعقلية حزب «بيس» اليمينية.
والواقع أن مجرد إمكانية حصول ذلك التغيير تُظهر مدى اختلاف بولندا عن المجر. ففي بودابست، يمتلك حزب أوربان اليميني، الذي يدعى «فيدس»، أغلبية عظمى في البرلمان ويحكم البلد من دون مراعاة لأي معارضة. وقد عمل أوربان فعلياً على إضعاف محاكم البلاد وجامعاتها وصحفها. وتعتقد «فريدوم هاوس»، وهي مركز بحوث أميركي، أنه لم يعد ممكناً اعتبار المجر دولة ديمقراطية.
أما بولندا، فإن وضعها ليس بهذه الدرجة، ذلك أن قوة حزب «بيس» ليست كبيرة وموحدةً مثل قوة أوربان وحزب «فيدس». ثم إن صاحب السلطة الحقيقية في المشهد السياسي البولندي ليس دوداً وإنما ياروسلاف كاتشينسكي، زعيم حزب «بيس»، الذي ساهم في تأسيسه رفقة أخيه التوأم ليش، الذي مات في 2010 في حاث تحطم طائرة. وعلاوة على ذلك، فإن «بيس» لا يمتلك أغلبية مسيطِرة في البرلمان، ذلك أن المعارضة لديها أغلبية في مجلس الشيوخ، أما في الغرفة السفلى (النواب)، فإن كاتشينسكي مطالَب بالمحافظة على تحالف هش ومتوتر مع أحزاب أخرى تدعى «اليمين المتحد».
وفي مايو الماضي، عندما أُرجئت الانتخابات الرئاسية بسبب جائحة فيروس كورونا، كان لدى حزب «بيس» سبب للشعور بالثقة والاطمئنان إلى أن «دودا» متجه للحصول على ولاية رئاسية ثانية. غير أن البولنديين لم تعجبهم طريقة تعاطي الحكومة مع الوباء وادعاءات الفساد التي لاحقتها في الآونة الأخيرة. وعلى نحو جد دالّ ومعبّر، لجأ «دودا» وحزب «بيس» إلى أسلوب «أوربان» في الحملات الانتخابية، مستخدمين خطاب «نحن مقابل هم» الذي يصم الأقليات بهدف حشد القاعدة الكاثوليكية الريفية. هذه الحملة التي قادها دودا و«بيس» بدأت مع تصوير ترزاسكوفسكي، على التلفزيون العمومي الممول من أموال دافعي الضرائب والمستقل شكلياً، على أنه ليس كاثوليكياً صالحاً، وأنه صاحب آراء مناوئة للسامية غير خفية، ويخدم لحساب «لوبي أجنبي قوي».. تغطية وصفها المراقبون الإعلاميون بأنها محض دعاية.
وإذا فاز ترزاسكوفسكي في الجولة الثانية، فإنه لن يستطيع تغيير السياسة البولندية بمفرده، وذلك لأن الرئاسة بشكل عام تظل منصباً بروتوكولياً إلى حد كبير. غير أنه سيتمتع بسلطة الفيتو، التي لن يستطيع البرلمان التغلب عليها إلا بأغلبية ثلاثة أخماس. وبهذا، قد يصبح ترزاسكوفسكي الوزن المضاد وسلطة الرقابة التي طالما سعى «بيس» لتفكيكها. وفي هذا المنصب، يستطيع ترزاسكوفسكي تلطيف أعمال وسياسات البرلمان والحكومة. الشيء الذي من شأنه أن يوتّر تحالف «اليمين المتحد»، وقد يؤدي إلى انتخابات برلمانية جديدة.
إن بولندا ليست البلد الوحيد حيث يوجد خلاف بين سكان المدن الكوسموبوليتانيين الليبراليين عموماً، وسكان الأرياف المحافظين إلى حد كبير. لكن بينما تخضع أوروبا للانقسام والتجاذبات بفعل قوى أخرى، فلا شك أن عودة بولندا إلى عقلية بنّاءة وليبرالية ستُمثل خطوة كبيرة. وباختيارهم ترزاسكوفسكي بدلاً من دودا، يستطيع البولنديون الشروع في معالجة واحد من أكثر انقسامات أوروبا إيلاماً.
*كاتب متخصص في الشؤون الأوروبية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»