الانسحاب من «الصحة العالمية» تهديد للأمن العالمي
يوم الاثنين الماضي، وجّه الرئيس الأميركي دونالد ترامب تحذيراً لمنظمة الصحة العالمية وأمهلها شهراً، لكي تعيد النظر في تصرفاتها أو تفقد التمويل الأميركي. ففي رسالة بتاريخ 19 مايو إلى منظمة الصحة العالمية، قال ترامب إن المنظمة «كانت مصرة بشكل غريب على الإشادة بالصين»، وفشلت في تحذير العالم بشأن خطر كوفيد- 19 في الوقت المناسب.
بيل وميليندا غيتس انتقدا إعلان ترامب الشهر الماضي، بشأن تجميد التمويل الأميركي لمنظمة الصحة العالمية – وكان بيل غيتس خلال الأسابيع الأخيرة قد شجّع أكثر من 200 ملياردير كانوا قد وقعوا «تعهد العطاء» بتنسيق جهودهم بخصوص جهود الرد على كوفيد- 19.
وتواجه سياسة الصحة العالمية تحديين اثنين: إمكانية انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، وزيادة محتملة في الحاجة إلى العمل الخيري، بالتوازي مع انسحاب الولايات المتحدة. وإليكم ما قد تعنيه تلك التحولات.
يشكّل تمويل منظمة الصحة العالمية مثالاً واحداً على كيف توفّر الولايات المتحدة «منافع عامة عالمية» في إطار زعامتها. وفي الولايات المتحدة، يُعد أمن الصحة العالمية تقليدياً أولوية لدى كلا الحزبين. وإليكم مثالاً على ذلك: فالشراكة الأميركية مع منظمة الصحة العالمية بشأن أجندة أمن الصحة العالمية، توسّع نطاق السياسة الخارجية الأميركية. ذلك أن الولايات المتحدة تخصص 5 في المئة فقط من ميزانيتها الخاصة بالصحة العالمية للأمن الصحي، ولكنها تستغل هذا الاستثمار وتستخدمه من خلال جهود منظمة الصحة العالمية الأوسع. وإلى جانب الوقاية من انتشار المرض، فإن لهذا الأمر تداعيات أمنية مهمة؛ ذلك أن رعاية صحية غير كافية في أماكن أخرى من العالم تجعل البلدان عرضة لانعدام الاستقرار والعنف، ولاسيما في حالة الأوبئة.
وفضلا عن ذلك، فإن من شأن تعليق تمويل منظمة الصحة العالمية أن يحدّ من أنشطة منظمة الصحة العالمية – ومن التأثير الأميركي على الصحة العالمية. غير أنه إذا سحبت الولايات المتحدة المال، فإنها ستخلق فراغاً من المحتمل أن يسدّه أنواع آخرون من المانحين.
إذ يُظهر البحث الذي أنجزته كيف أخذت مؤسسات الأعمال الخيرية والخاصة تشكّل ملامح السياسة الصحية العالمية، وأصبحت أكثر أهمية خلال الأزمات الصحية. فعندما كبحت بلدان قوية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تمويل منظمة الصحة العالمية في أوائل الثمانينيات، بدأت ميزانية المنظمة تتحول من مساهمات البلدان (الإلزامية) المحددة؛ وأخذت المنظمة تعتمد بشكل متزايد على المساهمات الطوعية من كل من البلدان ومن المانحين من غير البلدان.
وتشكّل المساهمات الطوعية نحو 80 % من ميزانية منظمة الصحة العالمية، التي بلغ مجموعها 6.27 مليار دولار في سنة 2018-2019. ولكن هذه الأموال مرصودة لأغراض محددة، ما يعني أن منظمة الصحة العالمية ليس لديها تمويل مرن حقيقي تستطيع تحويله بسرعة للرد على انتشار مفاجئ للفيروس. وتُعد الولايات المتحدة أكبر مانح لمنظمة الصحة العالمية؛ إذ توفّر نحو 15 في المئة من ميزانيتها العامة. أما ثاني أكبر مانح، فهي مؤسسة بيل وميليندا غيتس، حيث تشكّل نحو 9 في المئة.
ومن المحتمل أن تلعب الأعمال الخيرية الخاصة – التي تشكّل نحو 20 في المئة من إجمالي مساعدات التنمية للصحة – دوراً أهم من أي وقت مضى. وإذا كانت المنح الخاصة خلال حالات الطوارئ نادرة تاريخياً قبل الرد على إيبولا في 2013-2016، فإن بيانات من «كانديد»، وهي منظمة غير ربحية ترصد المنح الخاصة، تُظهر أن التبرعات المتعلقة بكوفيد- 19 ارتفعت بشكل صاروخي منذ يناير؛ إذ بلغت 10.4 مليار دولار – تمثّل أكثر من 3400 منحة من 677 مانحاً. وعلى سبيل المقارنة، فإنه منذ تفشي «سارس» في 2002 ساهم المانحون بما مجموعه 7.2 مليار دولار فقط للمساعدة في الرد على حالات طوارئ صحية عالمية أخرى خلال الـ18 سنة الماضية.
ولا شك أن أموالا أكثر لمحاربة كوفيد- 19 تبدو شيئاً جيداً، غير أن توسع الأعمال الخيرية أكثر إثارة للجدل مما قد يعتقد المرء. إذ يقول بعض الباحثين إنه على الرغم من أن نية المانحين قد تكون حسنة، إلا أن تفاعلهم مع المؤسسات الصحية العالمية يمنح مجموعة صغيرة من الأغنياء نفوذاً سياسياً.
وبشكل عام، يمكن القول إن تبرعات المانحين الخواص خلال أزمة صحية عالمية من غير المحتمل أن تعالج المشاكل البنيوية المتعلقة بتقوية الأنظمة الصحية حول العالم من أجل الوقاية من العواقب الكارثية للأزمات المستقبلية – مثل الأوبئة. وعلى سبيل المثال، أعلن بيل غيتس أن الجهود الخيرية لا تستطيع الاضطلاع بأدوار البلدان المانحة. غيتس – الذي يعتزم التبرع بكامل ثروته – قد لا يكون الشخص المتوقع للتحذير من حدود العمل الخيري، ولكن موقفه يشير إلى أنه بينما يعوّض المحسنون وفاعلو الخير عمل الحكومات المانحة، سيكتشفون أنهم لا يستطيعون فعل كل ما تستطيع فعله البلدان ومنظمة الصحة العالمية.
*باحثة في العلوم السياسية بجامعة نورثيسترن الأميركية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلوميبرج نيوز سيرفس»