في مقال بعنوان «سقوط الغرب» في صحيفة «لفيغارو» (6 مايو 2020)، ذهب المفكر السياسي الفرنسي «نيكولا بيفريز» إلى أن أزمة الكورونا الراهنة كشفت عن مظاهر التأزم العميقة التي يعرفها الغرب حالياً، بعد قرون أربعة من الهيمنة على العالم.
لقد كان الغرب هو القوة الدافعة لثلاث موجات من العولمة، تركزت أولاها في القرن السادس عشر حول الاكتشافات الكبرى، وتمحورت الثانية في القرن التاسع عشر حول ظواهر ثلاث مترابطة، هي الاستعمار والثورة الصناعية والاقتصاد التبادلي الحر، أما الموجة الثالثة فهي التي برزت في نهاية القرن العشرين بعد انهيار المعسكر السوفييتي، وتركزت حول توسع المنظومة الرأسمالية والدخول في العصر الرقمي.
ويرجع بيفريز هيمنة الغرب إلى مبادئ أربعة هي: اكتشاف النظام الرأسمالي، وتقدم العلوم الطبيعية، والحرية السياسية، وتضامن الأمم الديمقراطية ضد الاستبداد والديكتاتورية.
وبدلاً من أن تؤدي الموجة الثالثة من العولمة إلى تدعيم تفوق وهيمنة الغرب، يرى بيفريز أنها أدت إلى انتكاسته، بل سقوطه، متوقفاً عند بعض الظواهر المقلقة مثل تراجع الفاعلية الإنتاجية للدول الصناعية الغربية الكبرى (من نسبة 45 بالمائة من الإنتاج العالمي إلى نسبة 30 بالمائة)، وتعدد مراكز القوة الجيوسياسية في العالم، وتفكك أطر التحالف التقليدية بين الديمقراطيات الغربية، وتراجع المكاسب الديمقراطبة بانهيار السلط المضادة وطغيان النزعات الشعبوية غير الليبرالية.
وليست هذه النغمة بالنشاز اليوم في الفكر الغربي، فمن البديهي أن أزمة الكورونا الراهنة قد ولّدت صدمة قوية في المجتمعات الغربية توازي صدمات الحروب العالمية التي اجتاحت أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، وقد خلّفت أوانها انطباعاً عارماً بما أطلق عليه الشاعر والكاتب الفرنسي بول فاليري «اكتشاف قابلية الحضارة للموت».
ومن الملاحظ أن بعض الكتابات العربية الرائجة تتحمس لهذه النغمة المتشائمة، وتبشر بنهاية «الحضارة الغربية»، دون تبصر ولا تمحيص، وبعضها يحتفي بالعصر الآسيوي الجديد والهيمنة الصينية الموعودة.
ما نريد أن نبيّنه هو أمران أساسيان هما: انتماؤنا المشترك إلى هذا الأفق الحضاري الذي يسمى ببعض التجوز «غرباً»، واندراج خطاب الأزمة في صلب الديناميكية الداخلية لما يطلق عليه الحضارة الغربية.
أما العنصر الأول، فبديهي من عدة أوجه، حتى ولو كان مفهوم «الغرب» في دلالته الأيديولوجية والجيوسياسية، قام على إقصاء المكون العربي الإسلامي من التقليد التوحيدي المتوسطي. في عصور النهضة الأوروبية تمت إعادة كتابة تاريخ الحضارة الأوربية بتأسيسها على المرجعية اليونانية، في حين أن اليونان القديمة كانت مكوناً أساسياً من مكونات الثقافة الشرقية، والمدرسة الفلسفية اليونانية انتقلت بعد إغلاقها في أثينا سنة 529 إلى الإسكندرية وحران، كما أن النص الفلسفي اليوناني أصبح من الروافد الأساسية للفكر العربي الإسلامي الوسيط. وقد ذهب «آلان دي لابيرا»، أبرز مؤرخي الفلسفة الوسيطة، إلى أن حركية التفلسف في العصور اللاتينية وبدايات العصور الحديثة تمت من خلال السردية العربية الإسلامية، إلى حد القول إن ابن سينا، وليس أرسطو، هو المرجعية الحقيقية للفلسفة الغربية الوسيطة.
كما أن عبارة «التقليد اليهودي المسيحي» التي اخترعها بعض اللاهوتيين البروتستانت في القرن التاسع عشر، لا تعني أكثر من إقصاء الإسلام خطأً من هذا التراث التوحيدي المشترك الذي يلتقي في الثوابت الأساسية: عقيدة الخلق ومركزية الكتاب والزمنية الغائية وشريعة التكليف والجزاء..
وإذا كان بعض المفكرين العرب مالوا، لأسباب أيديولوجية معروفة، إلى الحديث عن وحدة الشرق والعقلية الشرقية المشتركة في مقابل الغرب (من مالك بن نبي إلى أنور عبدالملك وعادل حسين..)، فإن الحقيقة الموضوعية هي انتماء الثقافة العربية الإسلامية إلى السياق الحضاري المشترك مع الغرب. كان عالم الأنثربولوجيا الشهير «كلود ليفي شتراوس» يقول إن عالم الإسلام ليس غريباً ولا أجنبياً على الأوروبي، على عكس الشرق الأقصى الذي ينتمي لسياق عقدي وقيمي مختلف جذرياً.
بقي القول إن خطاب الأزمة السائد اليوم في الأدبيات الغربية يعكس إحدى الميزات الأساسية في ديناميكية الفكر الغربي الحديث، بحيث يمكن أن نؤكد أن المسلك النقدي للحداثة واكب الحداثة نفسها منذ مراحل تشكلها الأولى. وإذا كان من الصحيح أن النموذج الغربي يواجه حالياً مصاعب حقيقية في مطامحه وتوجهاته الكونية، فمن الصحيح أيضاً أن مستقبل العالم العربي الإسلامي مرهون، إلى حد بعيد، بمآلات وآفاق هذا النموذج الذي استطاع أن يصوغ عملياً وضعنا الحضاري الراهن.
لقد كان الغرب هو القوة الدافعة لثلاث موجات من العولمة، تركزت أولاها في القرن السادس عشر حول الاكتشافات الكبرى، وتمحورت الثانية في القرن التاسع عشر حول ظواهر ثلاث مترابطة، هي الاستعمار والثورة الصناعية والاقتصاد التبادلي الحر، أما الموجة الثالثة فهي التي برزت في نهاية القرن العشرين بعد انهيار المعسكر السوفييتي، وتركزت حول توسع المنظومة الرأسمالية والدخول في العصر الرقمي.
ويرجع بيفريز هيمنة الغرب إلى مبادئ أربعة هي: اكتشاف النظام الرأسمالي، وتقدم العلوم الطبيعية، والحرية السياسية، وتضامن الأمم الديمقراطية ضد الاستبداد والديكتاتورية.
وبدلاً من أن تؤدي الموجة الثالثة من العولمة إلى تدعيم تفوق وهيمنة الغرب، يرى بيفريز أنها أدت إلى انتكاسته، بل سقوطه، متوقفاً عند بعض الظواهر المقلقة مثل تراجع الفاعلية الإنتاجية للدول الصناعية الغربية الكبرى (من نسبة 45 بالمائة من الإنتاج العالمي إلى نسبة 30 بالمائة)، وتعدد مراكز القوة الجيوسياسية في العالم، وتفكك أطر التحالف التقليدية بين الديمقراطيات الغربية، وتراجع المكاسب الديمقراطبة بانهيار السلط المضادة وطغيان النزعات الشعبوية غير الليبرالية.
وليست هذه النغمة بالنشاز اليوم في الفكر الغربي، فمن البديهي أن أزمة الكورونا الراهنة قد ولّدت صدمة قوية في المجتمعات الغربية توازي صدمات الحروب العالمية التي اجتاحت أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، وقد خلّفت أوانها انطباعاً عارماً بما أطلق عليه الشاعر والكاتب الفرنسي بول فاليري «اكتشاف قابلية الحضارة للموت».
ومن الملاحظ أن بعض الكتابات العربية الرائجة تتحمس لهذه النغمة المتشائمة، وتبشر بنهاية «الحضارة الغربية»، دون تبصر ولا تمحيص، وبعضها يحتفي بالعصر الآسيوي الجديد والهيمنة الصينية الموعودة.
ما نريد أن نبيّنه هو أمران أساسيان هما: انتماؤنا المشترك إلى هذا الأفق الحضاري الذي يسمى ببعض التجوز «غرباً»، واندراج خطاب الأزمة في صلب الديناميكية الداخلية لما يطلق عليه الحضارة الغربية.
أما العنصر الأول، فبديهي من عدة أوجه، حتى ولو كان مفهوم «الغرب» في دلالته الأيديولوجية والجيوسياسية، قام على إقصاء المكون العربي الإسلامي من التقليد التوحيدي المتوسطي. في عصور النهضة الأوروبية تمت إعادة كتابة تاريخ الحضارة الأوربية بتأسيسها على المرجعية اليونانية، في حين أن اليونان القديمة كانت مكوناً أساسياً من مكونات الثقافة الشرقية، والمدرسة الفلسفية اليونانية انتقلت بعد إغلاقها في أثينا سنة 529 إلى الإسكندرية وحران، كما أن النص الفلسفي اليوناني أصبح من الروافد الأساسية للفكر العربي الإسلامي الوسيط. وقد ذهب «آلان دي لابيرا»، أبرز مؤرخي الفلسفة الوسيطة، إلى أن حركية التفلسف في العصور اللاتينية وبدايات العصور الحديثة تمت من خلال السردية العربية الإسلامية، إلى حد القول إن ابن سينا، وليس أرسطو، هو المرجعية الحقيقية للفلسفة الغربية الوسيطة.
كما أن عبارة «التقليد اليهودي المسيحي» التي اخترعها بعض اللاهوتيين البروتستانت في القرن التاسع عشر، لا تعني أكثر من إقصاء الإسلام خطأً من هذا التراث التوحيدي المشترك الذي يلتقي في الثوابت الأساسية: عقيدة الخلق ومركزية الكتاب والزمنية الغائية وشريعة التكليف والجزاء..
وإذا كان بعض المفكرين العرب مالوا، لأسباب أيديولوجية معروفة، إلى الحديث عن وحدة الشرق والعقلية الشرقية المشتركة في مقابل الغرب (من مالك بن نبي إلى أنور عبدالملك وعادل حسين..)، فإن الحقيقة الموضوعية هي انتماء الثقافة العربية الإسلامية إلى السياق الحضاري المشترك مع الغرب. كان عالم الأنثربولوجيا الشهير «كلود ليفي شتراوس» يقول إن عالم الإسلام ليس غريباً ولا أجنبياً على الأوروبي، على عكس الشرق الأقصى الذي ينتمي لسياق عقدي وقيمي مختلف جذرياً.
بقي القول إن خطاب الأزمة السائد اليوم في الأدبيات الغربية يعكس إحدى الميزات الأساسية في ديناميكية الفكر الغربي الحديث، بحيث يمكن أن نؤكد أن المسلك النقدي للحداثة واكب الحداثة نفسها منذ مراحل تشكلها الأولى. وإذا كان من الصحيح أن النموذج الغربي يواجه حالياً مصاعب حقيقية في مطامحه وتوجهاته الكونية، فمن الصحيح أيضاً أن مستقبل العالم العربي الإسلامي مرهون، إلى حد بعيد، بمآلات وآفاق هذا النموذج الذي استطاع أن يصوغ عملياً وضعنا الحضاري الراهن.