استحوذت أزمة جائحة فيروس كورونا على تركيز دوائر صُنع القرار في دول العالم، حيث هددت الأزمةُ منظوماتِ الأمن القومي التقليدية للدول، نتيجة للارتباط المتبادل عالمياً في بنية اقتصاد النظام الدولي المُعولم، وتسبب تفشي وباء كورونا بخسائر بشرية واقتصادية، وتراجعت معه معدلات النمو، وتوقفت سلاسل الإمداد عبر مختلف مناطق العالم.. مما أحدث هزة عنيفة لمنظومات الأمن القومي في الدول ككل، وظهر جلياً أن الدول بحاجة لمراجعة استراتيجياتها للأمن القومي، ولإعادة رسم استراتيجية أمنية لمرحلة ما بعد الفيروس، بسبب التغييرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي يشهدها العالم. إن إخفاق بعض الدول في توفير الأمن الصحي لمواطنيها والمقيمين على أراضيها، يتطلب منها إعادة النظر في تحديد مصادر التهديد لأمنها القومي، وإعادة صياغة استراتيجياتها في تقييم تلك التهديدات، وفي التعامل معها.
إن المفاهيم الأمنية دائماً في تغير وتجدد، حسب الضرورة والحاجة، ووفقاً للاختلاف في نوعية وعدد مصادر التهديد لأمن الدول، وقد ظهر مصطلح الأمن القومي لأول مرة حين أدخلته الولايات المتحدة في معجمها السياسي بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أصبح مرادفاً لتعزيز وتحديث القوات العسكرية والأجهزة الأمنية، وتأمين الحصول على قدرات الدفاع والردع والتفوق في الوقت نفسه، أما طبيعة التهديد ومصدره، وفقاً لتلك الرؤى، فيتأتيان بدرجة رئيسية من خارج الحدود الجغرافية للدولة المعنية، وتمت صياغة استراتيجيات الحفاظ على الأمن القومي، اعتماداً على التسلح والقوة العسكرية، إلا أن هذا المفهوم طرأ عليه تغير في عهد الرئيس كارتر، الذي أضاف عاملين مهمين من عوامل ضمان الأمن القومي، هما الاقتصاد والبيئة. غير أن التطور الذي حصل في العالم أدى إلى توسع قاعدة مفهوم الأمن القومي، حيث استندت مفاهيم تحقيق الأمن على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كأسس أولية، دون حصرها في القوة العسكرية والتطور التقني، باعتبار أن جهود الإنماء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، هي أيضاً ركائز لاستقرار المجتمعات وأنظمتها السياسية، إلا أنه خلال السنوات الماضية، ونتيجة للطبيعة المتغيرة للتهديدات، بدأت تظهر مصادر قلق أخرى لواضعي استراتيجيات الأمن القومي، كالتهديدات الناشئة عن التغيرات المناخية (موجات الجفاف والأعاصير وظهور أمراض وأوبئة جديدة)، والتهديدات الناجمة عن التنظيمات الإرهابية، والتهديدات التي يشكلها الإرهاب الإلكتروني.. نتيجة لما تمثله تلك التهديدات من قدرة على الإضرار باقتصادات الدول، وإضعاف مواقفها السياسية، ورغم أن تقارير أممية سبق وأن حذّرت من احتمال تعرض العالم لأوبئة قد تؤدي إلى وفاة الملايين، فإنه تم تجاهلها، ولم يجر التعامل معها بالجدية المطلوبة.
لقد كشفت أزمة فيروس كورونا هشاشة العديد من الدول، وعدم قدرتها على التعامل مع التهديدات المستجدة، كتهديد الفيروسات العابرة للحدود، بغض النظر عن قدراتها الاقتصادية والعسكرية، فمن المنطقي أن تقوم تلك الدول في مرحلة ما بعد كورونا بإعادة تقييم شاملة لمستوى جهوزيتها الوطنية، ومستوى قدرتها على الاستجابة للمخاطر المستجدة، في ضوء الحاجة لإعطاء الأمن الصحي أولولية قصوى، فبرزت حتمية تطوير الدول لقدرات دفاعية ذاتية وعلمية قادرة على البحث والتنبؤ بالمخاطر الصحية ومواجهتها، وهذا التقييم سيفرض إعادة ترتيب الأولويات في مواجهة التهديدات التي يتعرض لها الأمن القومي، مما يعني إعادة بناء المنظومة الأمنية والاستخباراتية، بشكل يضمن إدخال الأمن الصحي في بنيتها.
*كاتبة إماراتية