أكرم ألفي (واشنطن، القاهرة)
نيويورك ولاية الأضواء الساطعة وموطن تمثال الحرية تجلس إلى الهامش في الانتخابات الرئاسية الأميركية، فأصوات مندوبيها الـ28 في المجمع الانتخابي ستذهب للمرشح الديمقراطي.. فهي تنحاز للحزب الديمقراطي منذ انتخاب جون كيندي في 1960 باستثناء انتخابات نيسكون (1972) وريجان (1980 و1984).
ولاية نيويورك هي معقل الحزب الديمقراطي وقدرة المرشح الجمهوري في اختراقها منذ 1988 تعد من المستحيلات في السياسة الأميركية.
ولاية «نيو امستردام» القديمة - إحدى المستعمرات الـ 13 التي شكلت الولايات المتحدة في عام 1788، لا يلتفت إليها أحد في الانتخابات الرئاسية، فهي «هامش الهامش» في تقرير مصير القادم الجديد إلى البيت الأبيض.
وكانت «الولاية الزرقاء» حاسمة في وصول روزفلت في انتخابات 1932، معلنة تأييدها لرؤيته في تجاوز الكساد العظيم، ومن وقتها فإن اختياراتها هي المرشح الديمقراطي ولم تنحاز إلى مرشح جمهوري «خاسر» سوى في انتخابات 1984 عندما أيدت حاكمها في ذلك الوقت الجمهوري توماس اي ديوي على حساب هاري ترومان.
يخوض الباحث في الشأن الأميركي نقاشات صعبة مع الجيل الجديد في منطقتنا العربية، الذي يتمركز معرفته على الولايات المتحدة على التأثير المعنوي والمؤثرين على التواصل الاجتماعي في نيويورك، حيث تكون الصورة «زرقاء» فقط تحمل دعاية وقيم الحزب الديمقراطي، ويظل النقاش محوره أن أميركا ليست نيويورك.
وعندما تحط الرحال في مدينة نيويورك ستعتقد لوهلة أنك في «عاصمة العالم» فهي الأكثر شبهاً بلندن، فهذه المدينة فتحت ذراعيها للمهاجرين من كافة أصقاع المعمورة منذ أكثر من 100 عام، لتصبح «بوتقة الصهر» الأميركية، حيث تضم بين جنباتها 800 لغة مما يجعلها أكثر المدن في العالم تنوعاً لغوياً.
وهنا لا يمكن معرفة ما الدين الأكثر انتشاراً، حيث التنوع يشمل المسيحيين والمسلمين واليهود بل أيضاً العشرات من المعتقدات إلى جانب نسبة كبيرة من غير المؤمنين، فهي مدينة التنوع التي تحتوي الجميع.
الرجل الأبيض أقلية في «عاصمة العالم»
يقطن ولاية نيويورك 19.5 مليون نسمة من بينهم نحو 8.3 مليون في مدينة نيويورك، وهي بدأت التعايش مع تراجع السكان بانخفاض بلغ 600 ألف نسمة عن عام 2020، بمعدل انكماش سكاني -0.5 %.
هذا التراجع في سكان الولاية انعكس في انخفاض عدد مندوبيها في المجمع الانتخابي من 34 إلى 28 مندوباً خلال 3 عقود، فقد أصبحت تاليةً لفلوريدا (30 مندوباً) لأول مرة في انتخابات 2024، حيث كان عدد مندوبيها في الانتخابات السابقة 29 مندوباً، مقابل زيادة عدد مندوبي تكساس باثنين وفلوريدا بمندوب.
وكانت نيويورك الولاية الأكبر سكاناً في أميركا لنحو 150عاماً، قبل أن تتراجع إلى المرتبة الثانية في 1962 بصعود لوس أنجلوس، وفي 1990 صعدت على حسابها تكساس، وتراجعت مجدداً في 2010 وهذه المرة لحساب فلوريدا.
فنيويورك هي ولاية «الانكماش السكاني»، فهي ولاية لا يرغب شبابها في الزواج ولا الإنجاب، وتعتمد على المهاجرين من أجل بقاء سكانها قرب الرقم 20 مليوناً.
وفي المقابل، فإن المدينة ما زالت تحافظ على زخمها فهي أكبر المدن الأميركية، متفوقة على لوس انجلوس وشيكاغو وهيوستن.
هذه الحقيقة الديموجرافية قد تتناقض مع مشاهدات زائر حي مانهاتن الشهير الذي يعد أحد أكثر المناطق كثافة في العالم بنحو 25 ألف نسمة لكل كيلومتر مربع، ولكن مانهاتن ليست نيويورك ونيويورك ليست أميركا!.
ومع تراجعها سكانياً، أصبحت نيويورك مكان «غياب الرجل الأبيض»، حيث يمثل السكان البيض «الانجلوساكسون» في المقاطعات ال62 للولاية 30.9 % من إجمالي سكانها، فهي تعد الولاية الأقل في نسبة البيض «غير اللاتينيين» في أميركا.
في المقابل، فإن «الهسبان» أو اللاتينيين يمثلون 29 % ومن أصول أفريقية 20 % إلى جانب 15 % من الآسيويين وأقل من 1 % للسكان الأصليين (الهنود الحمر).
فهي ولاية غابت عنها «شمس الرجل الأبيض» منذ عقود لصالح «الهسبان» وأصحاب الأصول الأفريقية الذين يمثلون معاً نحو نصف سكانها. فهي المكان الذي لو ذهبت لمدرسة فإنك ستجد أن نصف الأطفال هم مولودون لأمهات مهاجرات، فنحو 36% من سكان المدينة ولدوا خارج الولايات المتحدة.
وتضم نيويورك ثاني أكبر تجمع للناخبين ذات الأصول الأفريقية بنحو 2.4 مليون ناخب وثاني أكبر عدد من الناخبين ذوي الأصول الآسيوية بنحو 1.1 مليون ناخب.
إن إدراك الصورة السكانية لنيويورك، يجعل فهم الانحياز السياسي لولاية الأضواء الساطعة سهلاً للغاية، مع معرفة أن أكثر من 70% من الناخبين «اللاتينيين» و«الأفارقة» يفضلون التصويت للمرشح الديمقراطي.
ومن هنا كان مشهد المسيرات في شوارع نيويورك عقب انتخاب دونالد ترامب في 2016 التي رفعت شعار «ليس رئيسي».
هذه المسيرات في محيط برج «ترامب الدولي» الذي يضم شركات ترامب ابن مدينة نيويورك، ولكنه ابن يعرف جيداً أن مدينته تحب خصومه من الديمقراطيين، مما يجعله يتجنب مؤتمرات انتخابية في هذه الولاية المحسومة سلفاً لكامالا هاريس.
وكما تذكر الأمثال في نيويورك فإن الديمقراطيين لو خاضوا الانتخابات اليوم، فإنهم سيفوزون بأصوات الولاية على حساب «ريجان» آخر جمهوري اختاره ناخبو نيويورك.
الهامش الانتخابي
نيويورك انتخابياً هي نموذج لـ «الولاية الزرقاء» التي تضم أغلبية من «الهسبان» و«الأفارقة» والآسيويين إلى جانب ارتفاع نسبة الحاصلين على تعليم جامعي، إنها الهامش الانتخابي المحسوم سلفاً للحزب الديمقراطي ولكنها في نفس الوقت لا تفقد تأثيرها في الانتخابات الرئاسية حيث تعد مركز التمويل الرئيس للحملات الانتخابية للمرشحين.
فعندما استولى الإنجليز على مستعمرة «نيو امستردام» من الهولنديين في 1664 سارعوا في تشكيل مركز تجاري بهذه المستعمرة التي تقع في شمال شرق الولايات المتحدة والأقرب بحراً إلى لندن عبر المحيط الأطلنطي.
واستمر الوضع مع استقلال الولاية في 1788 وبناء قناة «أيري» لتفرض هيمنتها الاقتصادية والمالية على أميركا بل كانت العاصمة قبل انتقالها إلى واشنطن في 1800.
وظلت مركز أنظار العالم باستضافتها مقر الأمم المتحدة والمركز الإعلامي الأكبر في المعمورة.
ومع فقدان تأثيرها التصويتي في الانتخابات، مازالت نيويورك هي «منجم التمويل» للحملات الانتخابية للحزبين الديمقراطي والجمهوري وصاحبة التأثير الإعلامي الأكبر في الانتخابات.
فمن المتوقع أن يصل تمويل الانتخابات في 2024 إلى 10 مليارات دولار نصفها تقريباً سيتوجه للانتخابات الرئاسية فيما النصف الآخر سيصب في انتخابات الكونجرس وانتخاب حكام الولايات وتقريباً نحو ثلث هذه المليارات مصدره نيويورك وحدها.
المركز المالي
إن نيويورك كانت مصدر المال دائماً في الانتخابات، فعندما أنفق اندرو جاكسون في 1828 على الانتخابات كانت أغلبها قادمة من نيويورك، وهنا وجدت نيويورك تأثيرها الذي لا يتوقف.
فالحزب الجمهوري الذي يعرف أنه سيخسر أصوات المقترعين في الصناديق يدرك أن مرشحه سيفوز بأموال نيويورك التي تضم أغلب شركات ترامب ومركز رجال الأعمال المؤيدين لترامب.
فصناديق الأموال القادمة من نيويورك ستكون لها كلمة حاسمة في الانتخابات وليس صناديق اقتراعها المغلقة لصالح الديمقراطيين.
إن نيويورك حاضرة في يوم الانتخابات بأصحاب المليارات، فمن بين الـ 10 الكبار من أصحاب المليارات الممولين للحملات الانتخابية لترامب وهاريس هناك 6 يقطنون نيويورك.
وفي النهاية يوم أن تجلس إلى الشاشة في التلفاز أو على هاتفك المحمول لمتابعة الانتخابات الأميركية لا تلتفت إلى نيويورك، فستجد أن الشاشة حولت خريطة ولاية تمثال الحرية إلى اللون الأزرق بعد أن يبدأ التصويت بدقائق فهو مؤشر إلى «لا شيء» في يوم انتخاب الجالس في المكتب البيضاوي.