محمد المنى (أبوظبي)
شهدت منطقة شرق أفريقيا، خلال شهر نوفمبر المنصرم، فيضانات وسيولاً عارمةً، خلَّفت خسائرَ بشريةٍ وماديةٍ وتسببت في معاناةٍ ونزوحٍ كبيرين، وفي تشرّد ملايين الأشخاص.
واضطرت دول المنطقة، لا سيما الصومال وإثيوبيا وكينيا، لتعبئة مواردها المستنفدة أصلاً في أولويات أخرى، بغية مواجهة الأوضاع الإنسانية الطارئة التي خلقتها كارثةُ السيول والفيضانات، والتي تأتي بعد موسم جفاف أنهك المزارعين ومربي المواشي، وهدد حياةَ عالَم الريف الذي تعيش عليه غالبية السكان ويشكل جانباً مهماً من اقتصادات هذه الدول.
ونجمت الفيضانات والسيول عن هطول الأمطار الغزيرة التي تواصلت لعدة أيام على أنحاء المنطقة، في إطار تقلبات جوية حادة تعصف بهذا الجزء من العالم، جراء ظاهرة النينو التي عادةً ما تتكون بسبب تغيرات الضغط الجوي فوق المحيط الهندي، لكنها أصبحت تتكرر بوتيرة أسرع وعلى فترات أكثر تقارباً من ذي قبل.
واضطرت عشرات آلاف الأسر في أنحاء منطقة القرن الأفريقي إلى النزوح من قراها وترك بيوتها هرباً من مياه الفيضانات والسيول التي ضربت المنطقة.
ووفقاً لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تم، منذ بداية نوفمبر، تسجيل أكثر من 795.000 حالة نزوح في الصومال.
وفي إثيوبيا اضطرت أكثر من 40 ألف أسرة للنزوح، وتضرر أكثر من نصف مليون شخص بينهم 160 ألف لاجئ صومالي يعيشون في مخيمات بمقاطعتي دولو أدو وبوكولمايو. كما تأثرت مخيمات اللاجئين الصوماليين في كينيا أيضاً، حيث فقد 25.000 شخص خيمهم في معسكر داداب للاجئين الصوماليين، ولجأ العديد منهم إلى المدارس داخل المخيمات وفي المجتمعات المجاورة، كما فتح بعض اللاجئين منازلهم لاستضافة النازحين الجدد، مما أدى إلى اكتظاظ المساكن والخيم.
ووفقاً لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، غطت مياه الفيضانات مساحات واسعة من الأراضي في الدول الثلاث، وعلى سبيل المثال فقد ذكرت تقارير من جنوب شرق إثيوبيا أن أكثر من 65 بالمائة من الأراضي غطتها مياه الفيضانات.
كما تسببت هذه الفيضانات في انجراف التربة وخراب المحاصيل الزراعية وفي نفوق آلاف من رؤوس الماشية، مما أثر بشكل مباشر على الأنشطة الاقتصادية للسكان وسبل عيشهم، لا سيما أن هذه الفيضانات تسببت في شل الحركة على نطاق جغرافي واسع جراء الأضرار الجسيمة التي أصابت البنية الطرقية الهشة، وهو ما يهدد بوقف إمدادات الأسواق المحلية، وبالتالي بنذر بتفاقم الوضع الغذائي المتردي أصلاً.
وفي ظل هذه الأوضاع الإنسانية الطارئة بات الوضع الصحي للنازحين والسكان المحليين مصدر قلق كبير لدى السلطات المحلية وممثلي وكالات الأمم المتحدة ذات الاختصاص، حيث تضررت المراحيض وانهارت شبكات الصرف الصحي الصغيرة والهشة أصلاً، مما يعرض السكان لخطر الأوبئة وانتشار الأمراض المعدية، بما في ذلك الكوليرا التي عادة ما تفتك بالفئات الهشة خلال مواسم الأمطار.
وهذا في الوقت الذي تهدمت فيه العديد من الطرق وتقطعت سبل التنقل، الأمر الذي يحد من قدرة السكان على الوصول إلى الخدمات الحيوية مثل الأسواق والمستوصفات.
ووفقاً للسلطات المحلية والوكالات الأممية، فإن حوالي خمسة ملايين شخص في منطقة القرن الأفريقي تضرروا بشكل مباشر من الفيضانات والسيول الأخيرة، وهم بحاجة ماسة إلى الغذاء والماء والخيام والبطانيات وأدوات النظافة والطبخ. فضلاً عن الحاجة إلى وسائل الحماية وإنقاذ الأرواح مع استمرار هطول الأمطار، وتزايد وطأتها على الفئات الأكثر تأثراً بالتغير المناخي وتداعياته.
وتأتي موجة الفيضانات والسيول بعد أطول موجة جفاف سجلتها منطقة القرن الأفريقي قبل أربعين عاماً من الآن، وهي مرحلة لا يزال ملايين الناس في المنطقة يتذكرونها ويشعرون بآثارها الشديدة، رغم أن مواسم جفاف أخرى مرت على المنطقة بعد ذلك، وكان أحدثها قبل بضعة أشهر من الآن، لكنها كانت أقل حدةً من جفاف الثمانينيات.
إن تذبذب التهاطلات المطرية في منطقة القرن الأفريقي والتعاقب العنيف وغير المنتظم بين موجات الجفاف وموجات السيول، يمثل الوجهَ الآخر القاسي للتغير المناخي في المنطقة.
وفي الوقت ذاته فهو يبعث رسالةَ إنذار تدعو البشرية إلى الكف عن إنتاج مزيد من الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وإلى بذل جهود أكبر في مواجهة التغير المناخي وتداعياته التي أبان عنها بوضوح تام مؤتمر «كوب 28»، كما طرَحَ الوصفةَ المثالية لمعالجتها والتصدي لآثارها.
أما معاناة المتضررين من هذه الأمطار الطوفانية، وما تسببت فيه من فيضانات وسيول عارمة، فهي مما جاء «صندوق تعويضات أضرار التغير المناخي» لمعالجته وتضميد جراحه. وهذا علاوة على إقرار المجتمع الدولي، ممثلاً في حكوماته خلال قمة «كوب 28»، ولأول مرة في التاريخ، بالعلاقة الوثيقة بين التغيرات المناخية والأوضاع الصحية للمجتمعات، كما يتضح ذلك جلياً من حالة النازحين في القرن الأفريقي وما تثيره الآن مِن قلق عميق بشأن الأوضاع الصحية في تجمعاتهم.