خالد عبد الرحمن (أبوظبي)
«لا نرغب سوى بالأمان والعودة إلى حياتنا الطبيعية»، على هذه الكلمات أجمع أطفال نازحون بسبب الصراعات والحروب تحدثت لهم «الاتحاد»، عبر أولياء أمورهم، في سوريا والعراق واليمن والسودان. ويعتبر الأطفال أبرز ضحايا الصراعات والنزوح والتي لا تنتهي آثارها بانتهاء المأساة بل تمتد إلى سنوات طوال بسبب ما تخلفه من ندوب كبيرة في نفوس الأطفال وأضرار نفسية ومعنوية مؤلمة لا يمكن علاجها بسهولة.
ويعتبر تأثير الحرب والنزوح على الأطفال مدمراً، ويمكن الشعور به في جوانب متعددة من حياتهم، مثل الصحة الجسدية، حيث يعتبر الأطفال أكثر عرضةً لسوء التغذية والأمراض المعدية والإصابات الناجمة عن العنف، كما قد يعاني الأطفال أعراض الصدمة مثل القلق أو الاكتئاب أو اضطراب ما بعد الصدمة، وقد يجدون أيضاً صعوبة في النوم أو التركيز أو الشعور بالأمان.
«الاتحاد» تسعى في هذا التحقيق إلى الوقوف على المشكلات النفسية، التي يتعرض لها الأطفال جراء الحروب والنزوح، والشعور الدائم بالخوف والقلق والاكتئاب أو تأخّر النمو العقلي والبدني والعاطفي، والاضطرابات السلوكية وردود الفعل العدائية، بالإضافة إلى صعوبة الاندماج بالمجتمع، والعجز عن بناء روابط عاطفية مع الآخرين، ومعرفة آراء الخبراء النفسيين حول كيفية مساعدة هؤلاء الأطفال على التعافي من آثار هذه الصدمات العنيفة.
نزوح تحت النيران
محمد علي، الطفل السوداني الذي يبلغ 10 أعوام، والذي اضطر لترك منزله في العاصمة السودانية الخرطوم بسبب الأزمة التي نسبت مؤخراً، قال إنه اضطر للفرار برفقة أهله تحت نيران الاشتباكات والانفجارات.
وقال الطفل محمد الذي تحدثت «الاتحاد» معه هو ووالده عبر الهاتف، إنه لا يشعر بالأمان رغم وصوله إلى منطقة آمنة نسبياً ولم تصلها المعارك في مدينة بورتسودان، وذلك بسبب ما رأه خلال وقبل النزوح من منزله.
وأردف: «منذ أن تركت منزلي انقطعت عن التعليم، ولم أذهب لأي مدرسة هنا (بورتسودان)، لا أريد سوى أن تتوقف المعارك وأعود إلى منزلي وأجتمع مع أصدقائي وألعب معهم».
منظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسيف» حذرت من الانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها الأطفال في الحروب والكوارث، مشيرةً إلى تكبّد آلاف الأطفال ثمناً باهظاً مع استمرار النزاعات المسلحة والعنف وانعدام الأمن.
وأكدت أن من التأثيرات السلبية البارزة التي تعلب دوراً مهماً في الأطفال النازحين والمتأثرين بالحروب، عدم القدرة على الوصول إلى المدارس أو التعرض لانقطاعات في التعليم. وتحدث الطفل محمد عن الصعوبات التي تعرضت لها عائلته خلال النزوح، من عدم توافر وسائل مواصلات واضطرارهم للتنقل بين مواصلات عدة والسير لمسافات طويلة، بالإضافة إلى عدم كفاية الطعام بحوزتهم وعدم امتلاكهم الأموال الكافية ليؤمنوا احتياجاتهم الضرورية والأساسية.
انتهاكات للأطفال
يؤدي النزوح إلى فصل الأطفال عن عائلاتهم أو تجنيدهم في جماعات مسلحة أو تعرضهم لأشكال مختلفة من العنف. ويتطلب التخفيف من تأثير الحرب والنزوح على الأطفال، توفير الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والماء والمأوى والرعاية الصحية، كما يمكن للمنظمات الإنسانية تقديم المساعدة الطارئة مثل المساعدات الغذائية أو الرعاية الطبية. كما يعتبر تقديم الدعم النفسي والاجتماعي أساسياً في مثل هذه الحالات، حيث يحتاج الأطفال إلى الدعم العاطفي.
أضف على ذلك، لم شمل العائلات، حيث يجب أن يكون الأطفال مع عائلاتهم كلما أمكن ذلك، ويمكن للمنظمات الإنسانية المساعدة في تعقب أفراد الأسرة المفقودين، وتقديم رعاية مؤقتة للأطفال غير المصحوبين بذويهم أو تسهيل لم شمل الأسرة.
ألم ومعاناة وحياة داخل خيمة
«أرغب بمعطف يقيني برد الشتاء وحذاء يغطي قدميّ ويساعدني على السير في الطين».. بهذه الكلمات تحدث الطفل عمر (11 عاماً) عن أمنيته من هذه الحياة التي لم يرَ منها شيئاً سوى الألم والمعاناة والعيش داخل خيمة مهترئة لاتقي برد الشتاء ولا حر الصيف.
عمر تحدث لـ «الاتحاد» قائلاً إنه يكره الحرب التي أجبرت عائلته على النزوح مرات عدة، وأنه اشتاق لمنزل عائلته الذي لا يعرف عنه شيئاً سوى الصور وما سمع عنه من أسرته.
عمر الذي يخاف كثيراً كلما سمع صوت الطائرة بسبب ما يحمله هذا الصوت من ذكريات مؤلمة رافقته وعائلته خلال رحلته المتواصلة من مخيم إلى آخر، وتسببت بفقدانه العديد من أقاربه وأصدقائه. يقول عمر: «انتظر بفارغ الصبر اليوم الذي تنتهي فيه الحرب، ونعود إلى قريتنا ومنزلنا الذي لم أعرفه من قبل».
استغلال الأطفال
ومن بين أبرز المخاطر التي تواجه الأطفال في الحروب والصراعات، الموت أو الإصابة بجروح والنزوح والانفصال عن الأسرة، كل هذا علاوة على صعوبة الحصول على الرعاية الصحية، ما قد يترك آثاراً طويلة المدى. ويُمثل الأطفال نسبة كبيرة من الضحايا المدنيين خلال الحرب، ووفقاً لمنظمة «إنقاذ الطفولة»، ارتفع عدد الأطفال الذين أصيبوا أو قُتلوا في النزاعات بنسبة 300% على مدى العقد الماضي. ويؤدي النزاع المسلح إلى تمزيق الأسر، وإجبار الآلاف من الأطفال على إعالة أنفسهم ورعاية معالين آخرين.
ويتخذ استغلال الأطفال الذي غالباً ما ترتفع نسبته أثناء الحرب، أشكالاً متعددة مثل العمل القسري في الحالات القصوى. ويعتبر تردّي الظروف المعيشية في المخيمات، بالإضافة إلى سوء الحالة النفسية سبباً أساسياً بانتشار الفقر وانعدام فرص العمل وسبل كسب العيش وسوء الخدمات الصحية، بالإضافة إلى مشاكل سوء التغذية ونقص التمويل ونقص مياه الشرب ومشاكل الصرف الصحي، وتفشّي الأمراض والأوبئة.
صدمات متتالية
ومن بين الأطفال الذين تواصلت معهم «الاتحاد» عبدالله، الطفل اليمني صاحب الـ8 سنوات، التي قضى معظمها متنقلاً في مخيمات اللجوء، حتى استقر مؤخراً برفقة عائلته في «مخيم الجفينة» أكبر مخيمات النازحين في محافظة مأرب.
يقول سعيد والد الطفل عبدالله لـ «الاتحاد»، إن ابنه قليل الحركة والكلام، ولا يرغب بالاختلاط بأقرانه من الأطفال الآخرين.
وأشار إلى أن نجله عبدالله كان يبلغ من العمر أقل من عام واحد حين أضطر للنزوح من منزلهم في العاصمة صنعاء بعد سيطرة جماعة الحوثي عليها بالقوة، وملاحقة كل من يختلف معها فكرياً.
وأشار إلى المعاناة التي عايشها ابنه عبدالله، حيث تعرضت المخيمات التي كانوا يقيمون فيها مراراً لعمليات قصف من قبل الحوثيين، بالإضافة إلى احتراق مخيمهم ونجاتهم من النيران بأعجوبة، مشيراً إلى تلك الأحداث وغيرها الكثير تسببت بصدمات نفسية لدى عبدالله وجعلته قليل الحركة والاختلاط مع الأطفال الآخرين في المخيم.
وأشار والد الطفل عبدالله إلى المعاناة التي يواجهها الأطفال في المخيمات من قلة المساعدات الغذائية التي تصلهم، وعدم كفايتها، بالإضافة إلى ضعف القطاع الصحي والتعليمي بشكل عام.
وقال: «عندما يمرض ابني أضطر لأخذه إلى المركز الصحي في المخيم، لكنني انتظر كثيراً بسبب الازدحام وقلة العاملين بالقطاع الصحي، وضعف الدعم المقدم للمرضى والقطاع الطبي في المخيمات». وأضاف: «بالنسبة للتعليم فهو ضعيف، ومعظم المخيمات المجاورة لا يوجد بها مدارس، ما يضطر معه الأهالي لاستقدام أبنائهم إلى مخيمنا، ما تسبب بازدحام كبير داخل الفصول الدراسية، وتراجع نوعية التعليم الذي يتلقاه الطلاب، وهو ما سيؤثر عليهم سلباً عند كبرهم».
عقبات مستمرة
من العقبات التي تواجه الأطفال النازحون وعائلاتهم في العراق، الهجمات الإرهابية المتكررة التي يشنها تنظيم «داعش»، بالإضافة إلى عدم وجود أوراق ثبوتية للمواليد الجدد أو بديلةً للتي فقدوها عند نزوحهم من مدنهم وقراهم، حيث أثر ذلك سلباً على حقوقهم مثل التنقل والتسجيل في المدارس أو الحصول على مساعدات إغاثية. ووفق تقارير لمنظمة الأمم المتحدة، فإن هناك نحو 45 ألف طفل عراقي نازح يفتقد الوثائق الثبوتية بسبب الحرب، وما تبعها من إجراءات وإهمال رسمي.
خوف مستمر
مريم، صاحبة الأعوام التسعة، من مدينة الرمادي، والتي اضطرت عائلتها للنزوح نحو مخيم مؤقت في إقليم كردستان، عقب سيطرة تنظيم «داعش» الإرهابي على قريتها، لا تزال تعاني عدم وجود أوراق ثبوتية. يقول والد مريم لـ «الاتحاد»، إنه استطاع تسجيلها بصعوبة في المدرسة بسبب عدم امتلاك أوراق ثبوتية، إضافة إلى الصعوبة الكبيرة بإدخالها المستشفيات عند المرض أو التنقل بين المناطق المختلفة. ورغم الجهود الحكومية لإعادة النازحين إلى مدنهم وقراهم، إلا أن والد الطفلة مريم يرفض العودة خشيةً على عائلته من الهجمات المتكررة التي يشنها تنظيم «داعش» بين الفينة والأخرى، والتي تستهدف القرى والمناطق الصحراوية البعيدة عن مركز المدينة.
التعامل مع الصدمات
الأخصائية النفسية وأخصائية الطفولة المبكرة، آلاء نبيل أبوسلعة، والتي كانت على تواصل مستمر مع الأطفال السوريين النازحين في الأردن، خصوصاً في مخيم الزعتري، قالت في تصريح لـ «الاتحاد» حول كيفية التعامل مع الأطفال الذين تعرضوا لصدمات جراء مواقف أليمة حدثت معهم أو أمامهم: إن الصدمات يبقى أثرها، وهي بالغالب كانت لدى فئة الأطفال المراهقين الذين عاشوا الصراع، وثم اللجوء، وحرموا من حياتهم الطبيعية التي كانوا يرغبون بها، وكان وعيهم في بداية تشكله، وأغلبهم عانوا من اضطراب ما بعد الصدمة والشعور دوماً بعدم الأمان واضطرابات نفسية وسلوكية.
وأضافت: «كان يجب علينا دائماً بث الطمأنينة فيهم وتوعيتهم بأنهم في مكان آمن، وكل ذلك الخوف انتهى، والتحدث عن المخاوف كان بداية حل أي صدمة نفسية».
الاضطرابات السلوكية
وأشارت الخبيرة النفسية آلاء نبيل أبوسلعة إلى أن من أبرز الاضطرابات السلوكية، كانت العدوانية والعنف والانطوائية لدى بعض الأطفال، مشيرةً إلى أن أفضل طريقة لحل الأزمات هو «التفريغ الانفعالي»، ومعرفة رغبات الأطفال النفسية، ودمجهم مع أقرانهم في بيئة داعمة، تشجع وتهتم وتقدم العون، وتعزز ثقتهم، وتبني باللعب أو الرسم أو الكتابة ما تحطم في نفوسهم».
واقع مختلف خارج المخيمات
من أبرز التحديات التي واجهت الأخصائية آلاء نبيل أبوسلعة، قالت: «رغبة الأطفال في معرفة الواقع المختلف للعالم الخارجي عن المخيم، هل هو بهذه الطريقة كما نعيش نحن أم مختلف؟».وقالت: «أستذكر أول رحلة مع الأطفال خارج مخيم الزعتري، لا أنسى ذلك اليوم أبداً، كان الأطفال وهم من مواليد المخيم يخرجون لأول مرة خارج أسوار المخيم، أذكر جيداً أن المخيم في ذلك الوقت ما زالت خيامه قديمة، ولا يوجد تمديدات صحية ولا كهرباء ولا مقومات جيدة للحياة حينها، ونحن في الحافلة أذكر تلك الدهشة التي اعتلت وجوه الأطفال جميعاً عندما شاهدوا المباني والبيوت والشوارع والسيارات، كل شيء كان جديداً بالنسبة لهم وكلهم طرح هذا السؤال لماذا نحن لا نعيش هنا؟، هل يمكننا أن نعيش هنا؟ لماذا نحن في مكان مختلف لماذا لا نرى هذه الأشياء؟».
تأثر بالمشاعر المحيطة
وربطت الخبيرة النفسية بين تأثر الجنين قبل ولادته والأحداث التي تدور حوله من حروب وصراعات ونزوح، قائلةً: «الجنين في رحم والدته يتأثر بالمشاعر المحيطة»، مشيرةً إلى أن «الجنين يتأثر بالحالة النفسية للأم بشكل مباشر، فهو يشبع بالهرمونات التي لها علاقة بالحالة النفسية والتي تصل له من الأم، وذلك بزيادة عدد ضربات القلب وضيق الأوعية الدموية وأعراض التوتر والانفعال، فهو ينقل التغيرات البيولوجية نفسها التي حدثت للأم كتعبير عن الانفعال، وبتكرار ذلك يصبح لدينا طفل يعتاد الانفعال دون أن يعي السبب، ولعل هذا يفسر خوف الأطفال بعد الولادة دون سبب واضح، فهو إعادة لما اعتاده جهازه العصبي والنفسي أثناء فترة الحمل، أي أن القلق تولد لديه من بيئة الرحم غير المستقرة».
وأضافت أن «المشاعر السلبية تنتقل للرضيع، حيث إن مرور المرأة المرضع بحالة نفسية سيئة، يزيد من إفراز هرمون (الإسترس) الذي يضعف المناعة، وينعكس على سهولة استقبال المولود للأمراض». وأشارت إلى أن الأطفال الذين ولدوا في مخيمات اللجوء أو أماكن الحروب تغذيتهم تختلف تماماً عن الأطفال الذين ولدوا في أماكن مستقرة وتدعم الأم نفسياً ومعنوياً.