طه حسيب (أبوظبي)
كمريض يئن جراء داءٍ مزمنٍ، تصرخُ الأرضُ من تجاوزاتِ البشر، جراء استخدام غير متوازن للموارد، ونمو اقتصادي لا يضع الطبيعة ضمن عوامل الإنتاج، إن لم تكن أحد الشركاء في الأرباح. عنوان الصرخة الآن تغيرٌ مناخيٌ يطال الجميع، ويظلم عن غير قصد دولاً ليست سبباً في الأزمة لكنها تواجه عواقبها دون جاهزية أو موارد كافية. العقل الجمعي العالمي نجح في تشخيص المشكلة، ووضع محاور تضمنتها اتفاقية باريس للمناخ، التي لا تزال تبحث عن أدوات تنفيذية فاعلة تحرز تقدماً صوب الحياد الكربوني «والانبعاثات الصفرية»، وتطمح لعدالة ممكنة تساعد من يتضررون دون أن يكونوا مساهمين بنسبة كبيرة في الانبعاثات .
مكمن التحول المنشود أن تكون الطبيعة جزءاً من رؤوس أموال البشر وأن تشاركهم الأرباح عبر الحفاظ عليها واستدامتها، لأن العكس خسارة تطال الجميع، وتربك الاستقرار في المجتمعات، ولا تفرق بين متسبب ومتضرر.
«العدالة المناخية»..ماذا تعني؟
«العدالة المناخية» تعني أن الدول التي تساهم بشكل كبير في تغير المناخ تدين بواجب أخلاقي لبقية دول العالم ليس فقط لوقف انبعاثاتها ولكن أيضاً لحماية الدول الأخرى من عواقب تغير المناخ، ضمن رؤية تقتضي مد الدول المتقدمة يد العون للبلدان النامية، لجسر الفجوة التقنية والاقتصادية، وتعني أيضاً أن تتحرك الأجيال الحالية الآن من أجل وقف انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، للتخفيف من الآثار السلبية لتغير المناخ التي ستتعرض لها الأجيال القادمة التي لا ينبغي أن تتحمل عبء التخلص من فوضى لم تتسبب فيها.
العدالة المناخية تعني أيضاً الاهتمام بالفئات الأكثر انكشافاً أمام التغير المناخي والأكثر تضرراً منه، والتي عادة ما تكون الأقل حظاً داخل بلدانها من حيث مستويات الدخل أو القدرة الاقتصادية، فعندما يضرب الفيضان منطقة ما، سرعان ما يتضرر سكان المناطق القريبة من النهر، وعادة هم سكان الريف من مزارعين يفقدون محاصيلهم ومراعيهم ومنازلهم أو صيادين يخسرون موائل ثروتهم الحيوانية لافتقادهم قدرات لوجستية ومادية، في المقابل يتضرر سكان المدن بدرجات أقل من التقلبات المناخية.
ومن الناحية العملية، تستوجب «العدالة المناخية» مراعاة نتائج التحول في قطاعات الإنتاج المراد تطويرها نحو الاقتصاد الأخضر، والطاقات المتجددة، كي لا يتضرر المنضوون في مجالات الطاقة الأحفورية والنقل وغيرهما، فالأمر يتطلب خطوات تدريجية، وبدائل عملية كاحتجاز الكربون وتفعيل تقنيات الهيدروجين الأخضر، وبرامج إعادة تأهيل الكوادر لقطاعات الاقتصاد الأخضر.
في عام 2021، بدأ تكريس العدالة المناخية، من خلال القرار 48/13 الصادر من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي يعترف بأن البيئة الصحية والآمنة والمستدامة حق من حقوق الإنسان للجميع، ويجب حمايتها على هذا النحو من قبل الحكومات الوطنية.
وبمنطق عالم واحد أو لا عالم، تستوجب التحديات المناخية تعاوناً دولياً يساعد الدول الأكثر تضرراً والأقل مساهمة في الانبعاثات العالمية، استرشاداً بمضامين مقولة «مارتن لوثركينج جينيور»، في ستينيات القرن الماضي: «علينا أن نتعلَّم العيش معاً كإخوة أو أن نُفْنَى معاً كحمقى»، مقولة يحتاجها العالم في حشد التعاون لمواجهة خطر التغير المناخي وتحقيق العدالة المناخية.
نموذج السنغال
تضطر بعض الدول النامية لتلقي قروض من أجل التصدي للتغيرالمناخي، وحسب تقرير لمؤسسة «أوكسفام»، فإن السنغال على سبيل المثال، تشكل القروض غير الميسرة نسبة 85 % من إجمالي التمويل الذي تستخدمه لمواجهة تداعيات التغير المناخي، ما يفاقم عبء الديون على دولة أفريقية تُشكل الديون 62.4% من ناتجها المحلي الإجمالي.
جلاسجو وصعود «دعوات التمويل»
وإذا كانت «العدالة المناخية» فكرة طوباوية يتعذر اكتمال تحقيقها، فإن الاقتراب منها يظل ممكنا من خلال التعاون في مسار (شمال- جنوب) عبر التمويل، وهذا ما جعل «مجموعة الـ77 والصين» تطالب الدول المتقدمة أثناء Cop26 في جلاسكو نوفمبر 2021 بتقديم تمويل قدرة 1.3 تريليون دولار لمساعدة الدول النامية توزع بالتساوي على تقليل الانبعاثات والاستعداد لتداعيات التغير المناخي. وفي Cop26 أيضاً انطلق «تحالف جلاسجو» المالي بمشاركة أكثر من 550 شركة في أبريل 2021 من قبل المبعوث الخاص للأمم المتحدة المعني بالعمل المناخي والتمويل مارك كارني ورئاسة قمة جلاسجو COP26، بالشراكة مع حملة «السباق إلى الصفر» التابعة لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي، لتنسيق الجهود عبر جميع قطاعات النظام المالي لتسريع الانتقال إلى اقتصاد عالمي بانبعاثات صفرية. يفرض التغير المناخي تحدياً عالمياً: النمو الاقتصادي المتوازن الذي يحقق تطلعات الشعوب في التقدم والازدهار، وفي الوقت نفسه يمضي بثبات نحو «انبعاثات صفرية»، إنها معادلة أحد طرفيها النمو الأخضر، أما الثاني تأهيل الدول وقطاعات الأعمال والمجتمعات لتكون أكثر جاهزية، أي قادرة على الصمود والتكيف مع تحديات التغير المناخي.
أنتوني غوتيريش: العدالة المناخية حتمية أخلاقية وشرط أساسي للعمل المناخي الفعال
«الخسائر والأضرار»
مواجهة التغير المناخي ترتكز على 3 محددات رئيسية تبدأ بتخفيف الضرر أولاً، والتكيف مع المخاطر ثانياً، و«معالجة الخسائر والأضرار» ثالثاً، والأخيرة تتمحور حول مساعدة الناس بعد تعرضهم لتداعيات التغير المناخي.
«الخسائر والأضرار»، مصطلح يُستخدم في مفاوضات الأمم المتحدة الخاصة بالمناخ، ليشير صراحة إلى عواقب التغير المناخي التي لا يمكن التكيف معها أو لا تمتلك المجتمعات الموارد اللازمة لمواجهتها عبر خيارات متنوعة. وفي تقديري أن المصطلح يعتبر بداية مهمة لمسارات العدالة المناخية التي تسعى لجسر الفجوة بين دول الشمال ودول الجنوب في التعامل مع أزمة المناخ العالمية.
الظلم المناخي
ومن بين أغرب مفارقات التغير المناخي أن الدول الأكثر تضرراً من عواقبه هي في أغلب الأحيان الأقل جاهزية لتداعياته والأقل مساهمة في الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري. ومن هنا تأتي العدالة المناخية، لتعبر في جوهرها عن الاعتراف بأن هناك دولاً تتضرر أكثر وليست متسببة في الاحترار وتوابعه، وهناك دول تتحمل المسؤولية «التاريخية» عن الانبعاثات منذ الثورة الصناعية وإلى الآن، ولا تتضرر بالقدر ذاته. وباستعارة مفردات قانونية مثل: (المتسبب- المتضرر- التعويض- المسؤولية)، تتحول المسألة إلى ساحة سجال «سياسي- قانوني» يحتدم مرةً ويَفتر أخرى، ويعلو ويهبط، مع كل كارثة مناخية تضرب دولة فقيرة أو جزيرة صغيرة نائية في أعالي المحيط.
أولئك الذين يتأثرون بشكل غير متناسب بتغير المناخ يميلون إلى عدم تحمل المسؤولية الأكبر عن التسبب فيه. إن تغير المناخ ليس مشكلة بيئية فقط: فهو يتفاعل مع النظم الاجتماعية والامتيازات والظلم المتأصل، ويؤثر على الناس من مختلف الأجيال والطبقات والأعراق والمناطق بشكل غير متساو.
محنة الصومال
في مقال نشرته مجلة Progressive يوم 5 مايو 2023، وتحت عنوان «التكيف مع أزمة المناخ في شرق أفريقيا»، نوّهت خديجة محمد المخزومي، وزيرة البيئة والتغير المناخي في الصومال، إلى توقعات بأن يؤدي اضطراب المناخ في القرن الأفريقي، بحلول عام 2050، إلى تشرد 55 مليون نسمة. توقعات دعت المخزومي لحشد الدعم الدولي العاجل لبلدها الذي يواجه تحديات التغير المناخي، بعد 6 مواسم جفاف متتالية، ونصف عدد السكان (8 ملايين نسمة) يحتاجون مساعدات إنسانية من أجل البقاء، و2.4 مليون طفل يعانون سوء التغذية، وشرد الجفاف 3 ملايين صومالي، 80% منهم أطفال ونساء. حال الصومال لا يختلف عن نظيراتها في مجموعة الدول الأقل نمواً في العالم التي تشكل في مجملها 13% من إجمالي سكان العالم، لكنها تساهم فقط بما نسبته 1.3% من الناتج العالمي.
خسائر بنجلاديش
وتشير تقارير البنك الدولي إلى أن الخسائر الناجمة عن الأعاصير المدارية في بنجلاديش تبلغ مليار دولار سنوياً. وبحلول عام 2050، يمكن أن يسفر التغير المناخي عن تراجع الإنتاج الزراعي في بنجلاديش بمقدار الثلث، وأن يتسبب في النزوح الداخلي لقرابة 13 مليون شخص. في حالة حدوث فيضانات شديدة، يمكن أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى 9 في المائة. وفي سواحل بنجلاديش، تعتبر زراعة الملح مصدراً رئيسياً للتوظيف. لكن في السنوات الأخيرة، أعاقت الأعاصير المتكررة، واندفاع المد والجزر، وهطول الأمطار الغزيرة إنتاج الملح، ما أدى إلى تآكل الاكتفاء الذاتي للبلاد وإجبارها على استيراد الملح لإدارة النقص في السوق.
نموذج موزمبيق
تأتي موزمبيق في جنوب شرق أفريقيا من بين أكثر البلدان تضرراً على مستوى العالم من الأخطار المرتبطة بالمناخ مثل الأعاصير والعواصف الاستوائية والفيضانات والجفاف، وفي مارس 2022 أدى إعصار «غومبي» إلى نزوح 130 ألف شخص وإلحاق الضرر بـ 736000، وتنتج موزمبيق 0.09% فقط من إجمالي انبعاثات العالم في المتوسط، والبصمة الكربونية لمواطنيها البالغ عددهم 31 مليون نسمة، تعد ربع البصمة الكربونية لمواطني المملكة المتحدة. إنها من بين العديد من البلدان الضعيفة التي يُتوقع أن تتحمل وطأة تأثير تغير المناخ، ولكن يصعب توقع خفض انبعاثاتها بشكل كبير.
«وعود» لم يكتمل تحقيقها
بالعودة إلى عام 2009، وُعِدت البلدان النامية بمبلغ 100 مليار دولار سنوياً كل عام بدءاً من عام 2020 فصاعداً لمساعدتها على معالجة تغير المناخ، وهو تعهد يُشار إليه أحياناً باسم «الصفقة الكبرى» لاتفاقية باريس. من الواضح الآن أن هذا التعهد لم يتم الوفاء به. ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي ترصد هذا التمويل، أقرت بأنه بلغ 79.6 مليار دولار فقط في عام 2019، وقالت إنها تتوقع فقط تمويل 100 مليار دولار سنوياً في عام 2023. وفي يونيو 2021، انتقد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، دول مجموعة السبع لفشلها في الوفاء بهذا التعهد. ولطالما تطرقت القمم المناخية لبند «الخسائر والأضرار» للتذكير بضرورة نقل التكنولوجيا وبناء القدرات وحشد التمويل للدول النامية من أجل تعزيز قدرتها على التكيف مع الخسائر والأضرار المترتبة على تغير المناخ.
سؤال «شهباز» الصعب
«لماذا يدفع شعبي ثمن ارتفاع درجة حرارة الأرض من دون أن يكون قد اقترف أي خطأ من جهته؟ صبّت الطبيعةُ غضبَها على باكستان من دون النظر إلى تأثيرنا الكربوني الذي لا يوازي شيئاً»، تساءل طرحه رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف، في سبتمبر 2022، وخلال جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة، محذراً من أن «الكوارث المناخية لن تبقى محصورة في بلاده التي ضربتها فيضانات، مطالباً بتعويضات عن الخسائر الناجمة عن ذلك. «شريف» شكا من أن بلاده «غير محصّنة في وجه التغير المناخي في حين أنها مسؤولة عن أقلّ من 1% من انبعاثات الكربون على المستوى العالمي».
فيضان باكستان
«ما يحدث في باكستان لن يبقى في باكستان»، هكذا تقول لافتة في جناح باكستان، أثناء انعقاد قمة Cop27 بمدينة شرم الشيخ المصرية، في نوفمبر 2022، باكستان عاشت تجربة الفيضان المدمر الذي تسبب في خسائر مليارية، في بلد يسهم بما نسبته 1% فقط من الانبعاثات العالمية. نموذج يعزز منطق العدالة المناخية الذي ظهر بوضوح خلال طرح فكرة «صندوق الخسائر والأضرار»، خلال قمة شرم الشيخ المناخية، حيث لاقت إعجاباً من «شيري رحمن» وزيرة تغير المناخ في باكستان، عندما قالت: «الاتفاقيات التي تم إجراؤها في Cop27 فوز لعالمنا كله.. إنها لا تتعلق بقبول صَدقة بل دفعة للاستثمار في مستقبلنا وفي العدالة المناخية».
«فانواتو».. خطوة البداية
تأسست «اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ» عام 1992 بعد أن أدركت الجمعية العامة للأمم المتحدة أن الخسائر والأضرار الناجمة عن التغير المناخي تمثل تهديداً للبشرية. أثناء التفاوض بشأن الاتفاقية، اقترحت فانواتو- (الدولة الجزيرة بالمحيط الهادئ، الواقعة شمال شرق أستراليا)- نيابة عن «تحالف الدول الجزرية الصغيرة» آلية لمعالجة الخسائر والأضرار الناجمة عن ارتفاع مستوى سطح البحر في هذه الدول النامية، لم يتحرك هذا الاقتراح إلى الأمام، على الرغم من أن «الاتفاقية» تقر بالتزام البلدان المتقدمة بدعم البلدان النامية في جهودها للتصدي لتغير المناخ.
من Cop13 إلى «آلية وارسو»
بدفع من «تحالف الدول الجُزرية الصغيرة» والدول النامية الأخرى، ظهر مصطلح «الخسائر والأضرار» خلال القمم المناخية لأول مرة في العام 2007، وذلك أثناء قمة Cop13 بمدينة بالي الإندونيسية، بعدما تولدت قناعة لدى المجتمع الدولي بصعوبة تفادي تداعيات التغير المناخي، وبدأ التركيز على أهمية معالجتها والتكيف معها. وازدادت درجة التركيز على مصطلح «الخسائر والأضرار»، خلال قمة Cop16 في عام 2010 بمدينة كانكون المكسيكية، تم وضع برنامج عمل لزيادة فهم وتقييم ومعالجة الخسائر والأضرار المتعلقة بالمناخ، ما أدى في وقت لاحق إلى إنشاء «آلية وارسو الدولية بشأن الخسائر والأضرار»، كمحصلة لقمة Cop19 في نوفمبر 2013 بالعاصمة البولندية وارسو، لمعالجة الخسائر والأضرار المرتبطة بآثار تغير المناخ، بما في ذلك الأحداث المتطرفة والظواهر بطيئة الحدوث في البلدان المعرضة بشكل خاص لتأثيرات تغير المناخ. وتضمنت الآلية 3 خطوات: تعزيز المعرفة والفهم لنهج إدارة المخاطر الشاملة لمعالجة الخسائر والأضرار، تعزيز الحوار والتنسيق والاتساق والتآزر بين أصحاب المصلحة المعنيين، وتعزيز العمل والدعم، بما في ذلك التمويل والتكنولوجيا وبناء القدرات.
وجاءت قمة Cop21 في باريس عام 2015 لترسّخ «الخسائر والأضرار» ضمن ركائز سياسة العمل المناخي لتصبح المحور الثالث بعض كل من التخفيف والتكيف. وضغطت الدول النامية كي تجعل «الخسائر والأضرار» ضمن بنود اتفاقية باريس للمناخ، لكن المادة رقم 8 في الاتفاقية لا تشير إلى تمويل متعلق بالخسائر والأضرار، حيث اعتمدت الدول المتقدمة صيغة تجعل هذا البند لا يوفر أساساً لأي مسؤولية أو تعويض.
صرخة الدول الجُزُرية
الدول الجُزرية الصغيرة عددها: 44 دولة وعدد سكانها 65 مليون نَسمة، وهي معرضة بشدة لتأثيرات تغير المناخ، وحجم انبعاثاتها من غازات الاحتباس الحراري العالمية 1% فقط، لكن خسائرها من التغير المناخي من العام 1970 إلى العام 2020 بلغت حسب البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة 153 مليار دولار أميركي.
تحالف الدول الجزرية الصغيرة يتضمن 44 دولة نامية ساحلية وجزيرة صغيرة ومنخفضة، وهي الأكثر تعرضاً لتهديد خطير جراء تغير المناخ، ليس غريباً أن يشكو «جاستون بروان»، رئيس وزراء أنتيغوا وبربودا (الجزيرة الواقعة شمال شرق البحر الكاريبي)، رئيس تحالف الدول الجزرية الصغيرة، أثناء افتتاح قمة «COP26» في جلاسكو نوفمبر 2021، من فشل المجتمع الدولي الوفاء بتعهدات تمويل المناخ، مشيراً إلى أن دول مجموعة العشرين قدمت في الوقت نفسه أكثر من 3 تريليونات دولار لدعم صناعة الوقود الأحفوري منذ اعتماد اتفاقية باريس في أبريل 2016. الفزع المتراكم لدى الدول الجُزرية من تداعيات التغير المناخي، دفع «إسماعيل كالسكاو» رئيس وزراء فانواتو (الدولة الجزيرة الواقعة شمال شرق أستراليا) إلى اقتراح معاهدة دولية لمنع انتشار الوقود الأحفوري، من أجل التخلص التدريجي من استخدام الفحم والنفط والغاز الطبيعي. «براون» دافع، وبقوة، عن «صندوق الخسائر والأضرار» الذي يُعتبر خطوة على درجة كبيرة من الرمزية، ظهر خلال قمة جلاسكو، وحظي بدعم نيكولا ستورجيون، الوزير الأول في أسكتلندا، حيث أشار بالتزامن مع الإعلان عن الصندوق، إلى أن «العدالة المناخية يجب أن تكون في قلب Cop26». وكانت أسكتلندا أول دولة متقدمة تتعهد بتمويل صندوق «الخسائر والأضرار»، معلنة تقديم مليون جنيه إسترليني (1.4 مليون دولار) لمساعدة المجتمعات على إعادة البناء جراء كوارث مناخية كالفيضانات والحرائق البرية. وفي المحصلة الأخيرة، رفضت الدول المتقدمة المقترح، ليظل الباب مفتوحاً أمام جهد متواصل لتحقيق العدالة المناخية بطرق مبتكرة وآليات غير مسبوقة.
«الشراكة من أجل الانتقال العادل في مجال الطاقة»
خلال قمة جلاسكو «Cop26» تم طرح مبادرة «الشراكة من أجل الانتقال العادل في مجال الطاقة»، حيث تلقت جنوب أفريقيا وعداً بالحصول على تمويل بمقدار 8.5 مليار دولار أميركي من فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي. وانضمت الهند وإندونيسيا وفيتنام والسنغال للمبادرة، واتسعت دائرة المانحين لتشمل بنوك التنمية متعددة الأطراف وبنوك التنمية الوطنية، والمأمول أن تسهم المبادرة في تسريع تحول الدول النامية إلى الطاقة المتجددة، بوتيرة أسرع من محادثات المناخ الأممية.
مسؤولية تاريخية أم مشتركة؟
لكن السؤال الجوهري: من المسؤول عن التغير المناخي؟ إنها الدول المتقدمة التي قادت الثورة الصناعية منذ 200 عام، فإن الولايات المتحدة، كونها أكبر منتج لغازات الاحتباس الحراري حتى عام 2007، تعتبر المسؤول الأول عن تغير المناخ الناتج عن مائتي عام منذ الثورة الصناعية التي قادتها بشكل يكاد يكود منفرداً، وعلى الرغم من هذه المسؤولية، عارضت واشنطن إيجاد حل فعال لمشكلة تغير المناخ، خلال السنوات الأولى للتفاوض، بحثاً عن حل تبادر به على الصعيد العالمي. وتظل مقاربة المسؤولية المشتركة أداة تتمسك بها الدول المتقدمة، على اعتبار أننا لا نبحث عن سبب المشكلة بقدر ما نركز على إيجاد حلول عملية، وهذا المنطق، كان سبباً في اعتراض بعض الدول على بروتوكول كيوتو عام 2007 الذي قسّم الدول إلى «متقدمة» تتحمل مسؤولية خفض نسبة الانبعاثات، وأخرى «نامية» ليس عليها أي التزام.
ولدى الدول النامية (مجموعة الـ 77 والصين) قناعة تُحمِّل من خلالها الدول الصناعية المسؤولية التاريخية عن الاحتباس الحراري المسبب للتغير المناخي، منذ الثورة الصناعية الأولى، وإنه من حق الدول النامية رفض الرقابة الدولية على صناعتها الناشئة، ووجوب منحها الفرص والإمكانيات ذاتها المتاحة للبلدان المتقدمة لتحقيق التطور الاقتصادي وفقاً لمبدأ الحق في التنمية.
أما الأمم المتحدة، فيمكن اختصار موقفها في عبارة «مسؤولية مشتركة ولكن»، واتجهت لبلورة مقاربة توفيقية تتعامل بها مع أزمة المناخ وما يتعلق بها باعتبارات بيئية على أنها مسؤولية مشتركة بين جميع الفاعلين، لكنها متباينة وفقاً للظروف الموضوعية والأولويات الوطنية والإقليمية لكل دولة.
الدول المتقدمة فقط!
مفاوضات المناخ مرت بمحطات مهمة جعلت تنتقل من التركيز على مسؤولية الدول المتقدمة عن الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري إلى تعميم الالتزامات والتعهدات على دول العالم كافة. بروتوكول كيوتو الصادر عام 1997 (ودخل حيز التنفيذ في 2007) ألزم الدول المتقدمة بخفض انبعاثاتها بنسبة 5.2% لتصبح دون مستويات عام 1990، وذلك بحلول عام 2012، طموح لم يتحقق، وما حدث كان عكس المستهدف، حيث ازدادت الانبعاثات العالمية بنسبة 40% تقريباً خلال الفترة من 1990 إلى 2009.
وكانت اتفاقية باريس للمناخ التي خرجت إلى النور عام 2015، وتم الاحتفال بالتوقيع عليها بمقر الأمم المتحدة في نيويورك، تزامناً مع «يوم الأرض» 22 أبريل 2016، نقطة تحول تاريخي في حشد الاستجابة العالمية لتغير المناخ، عن طريق هدف واضح يتمثل في منع ارتفاع درجة حرارة الأرض، بحث لا تتجاوز درجتين مئويتين مقارنة بمستويات ما قبل الثورة الصناعية. فللمرة الأولى في تاريخ البشرية، يوقع عدد كبير من قيادات العالم بلغ (175) قائداً في يوم واحد على اتفاقية دولية.
«منتدى المناخ المعرض للخطر»
وفي نوفمبر 2009، ظهر «منتدى المناخ المعرض للخطر»The Climate Vulnerable Forum (CVF) هو شراكة دولية للبلدان المعرضة بشدة لارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض. المنتدى بمثابة منصة للتعاون بين بلدان الجنوب للحكومات المشاركة للعمل معاً للتعامل مع تغير المناخ العالمي.
وكانت بداية ظهور المنتدى في نوفمبر 2009 بجزر المالديف عندما اجتمع «منتدى الدول المعرضة للتغير المناخي» للمرة الأولى بحضور رؤساء دول وحكومات يمثلون الدول المهددة بالتغير المناخي من شتى أرجاء العالم. وشارك «المنتدى» في قمة باريس للمناخ عام 2015، وصدر إعلان «مانيلا -باريس» وخريطة طريق (2016-2018) الخاصة بصندوق المناخ لتوضيح الجهود المخطط لها خلال هذه الفترة الزمنية، وفي عام 2016 ألزم بيان مراكش في قمة كوب 22 أعضاء المنتدى بالعمل المناخي الطموح، والسعي لتحقيق أقصى قدر من المرونة، وتلبية 100% من إنتاج الطاقة المتجددة المحلية بأسرع ما يمكن. وبعد اجتماع المالديف توالت اجتماعات المنتدى في جزيرة كريباتي عام 2011 وبنجلاديش عام 2011، وفي كوستاريكا 2013 والفلبين عام 2015 وإثيوبيا في 2016 وجزر مارشال في 2018، وبنجلاديش في 2020، وفي غانا 2022.
تم إطلاق الشراكة العالمية InsuResilience لحلول تأمين وتمويل مخاطر الكوارث والكوارث في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ لعام 2017 في بون. منذ إطلاقها، انضم أكثر من 120 عضواً إلى شراكة V20 وG20+. تهدف الشراكة إلى تعزيز قدرة البلدان النامية على الصمود وحماية أرواح وسبل عيش الفقراء والضعفاء من آثار الكوارث من خلال حلول التمويل والتأمين ضد مخاطر المناخ والكوارث.
ميثاق التضامن المناخي
وخلال فعاليات اليوم الثاني من Cop27، اقترح أمين عام الأمم المتحدة أنتوني غوتيريش ما أسماه «ميثاق التضامن المناخي»، من خلاله تقديم الدول المتقدمة دعماً مالياً وتقنياً للاقتصاديات الناشئة في البلدان النامية، لتسريع التحول صوب الطاقة الخضراء. وينطلق المقترح من حقيقة مفادها أن هذه الدول تسهم بقدر ضئيل من الانبعاثات، لكنها تتعرض لكوارث بيئية كالفيضانات والجفاف وغيرهما.
غوتيريش اقترح على مجموعة العشرين G20 ميثاق تضامن مناخياً، حيث تبذل جميع الدول الكبرى المصدرة للانبعاثات جهوداً إضافية لخفض الانبعاثات وتعبئ البلدان الأكثر ثراء الموارد المالية والتقنية لدعم الاقتصادات الناشئة في جهد مشترك للحفاظ على هدف عدم تجاوز ارتفاع درجة الحرارة حدود 1.5 درجة مئوية.
ولدى أمين عام الأمم المتحدة قناعة بأن تحقيق العدالة المناخية في أفريقيا ضروري لسلام العالم ونموه واستقراره.. وخلال زيارته كينيا في 3 مايو الجاري، أكد أن الجفاف الناجم عن تغير المناخ في القرن الأفريقي يشكل نداء من أجل يقظة الحكومات والجهات المانحة والقطاع الخاص لدعم برنامج المرونة لدى مجتمعات هذه المنطقة، داعياً لتخصيص 50% من التمويل لمشروعات التكيف مع الصدمات المناخية كالجوع وندرة المياه.
«فانواتو»: التغير المناخي هل يدخل محكمة العدل الدولية؟
الدول الجُزرية الصغيرة سريعة التأثر بالتغير المناخي، من بينها جمهورية فانواتو بالمحيط الهادئ، الواقعة شمال شرق أستراليا. ورئيس وزرائها «إسماعيل كالساكاو»، استشعر الخطر المتفاقم للتغير المناخي، وعرض في نهاية مارس الماضي مشروع قرار أممي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يطلب رأي محكمة العدل الدولية في التزامات الدول تجاه المناخ، وإصدار فتوى بموجب القانون الدولي بشأن: التزامات الدول تجاه حماية النظام المناخي والانبعاثات البشرية، والآثار القانونية المترتبة على إلحاق ضرر جسيم بالنظام المناخي، خاصة بالدول الجُزرية الصغيرة النامية. خطوة «كالساكاو» تندرج ضمن مسألة العدالة المناخية، خاصة في ظل عدم التزام الدول المتقدمة بتقديم 100 مليار دولار أميركي سنوياً، لدعم الدول النامية في مجال المناخ. أمين عام الأمم المتحدة يرى أن «أقل المساهمين في أزمة المناخ يواجهون جحيماً مناخياً، وارتفاع مستويات مياه البحر بالنسبة لبعض الدول يعد تهديدات المناخ عقوبة بالإعدام»، ما يعني فتوى المحكمة في حال صدورها ستحفز العمل المناخي، وتجعله أكثر جرأة، وهو ما يحتاج إليه العالم بشدة. أمين عام الأمم المتحدة علّق على مشروع قرار «فانواتو»، مصرحاً: «قيل إنه لا يوجد أقوى من الفكرة التي تأتي في وقتها.. حان وقت العمل المناخي والعدالة المناخية».
وقال الأمين العام إن فتوى المحكمة، في حال صدورها، ستساعد الجمعية العامة والأمم المتحدة والدول الأعضاء على القيام بعمل مناخي أقوى وأكثر جرأة يحتاج إليه العالم بشدة.
تحولات تستوجب التعاون
ومنذ «Cop1» المؤتمر الأول للأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي، المنعقد في الفترة من 28 مارس إلى 7 أبريل عام 1995 في العاصمة الألمانية برلين، إلى «Cop27» في شرم الشيخ وصولاً إلى القمة المناخية المرتقبة في إكسبو دبي 2023 «Cop28»، يتطلع العالم للحد من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري ومن ثم كبح التغير المناخي ودرء تداعياته، لكن ليس الأمر بهذه السهولة. فنحن أمام تحولات كبرى تطال قطاعات الطاقة والزراعة والتنقل والصناعة والتشييد وصولاً إلى الملابس والتغذية، هذا التحول الذي يتجه إليه العالم طوعاً أو كرهاً، سيرهق الدول النامية، ويجعلها في أمسِّ الحاجة للدعم المالي والتقني كي تستمر في تنمية خضراء تعزز اقتصادياتها وتضمن في الوقت نفسها التزامها بكبح التغير المناخي. ولا مناص من التعاون بين الدول المتقدمة والنامية.
تتمحور الأهداف العالمية لكبح التغير المناخي في محددات رئيسية: الاتفاق على إطار عام للحد من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري من خلال تعهدات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وفق مدى زمني محدد، ضمان تمويل التحول نحو أنشطة اقتصادية منخفضة الكربون، ومساعدة الدول النامية على السير في هذا الاتجاه، لكن يظل التنفيذ على أرض الواقع هو المعيار الحقيقي لقياس التقدم في جهود منع الاحترار.
«منتدى الدول المعرضة للتغير المناخي»
وفي 8 أكتوبر 2015، وبالتزامن مع الاجتماعات السنوية لمجموعة البنك الدولي في العاصمة البيروفية ليما، تم تدشين «مجموعة المعرضين العشرين» (V20).. نشأت الدعوة إليها من «خطة عمل كوستاريكا» الخاصة بمنتدى المناطق المعرضة لتغير المناخ (2013-2015) في جهد كبير لتعزيز الاستجابات الاقتصادية والمالية لتغير المناخ. وتوقعت إجراء حوار سياسي رفيع المستوى يتعلق بالعمل بشأن تغير المناخ وتعزيز التنمية القادرة على الصمود، مع تغير المناخ والانبعاثات المنخفضة مع الكفاءة الكاملة لمعالجة القضايا الاقتصادية والمالية التي تتجاوز اختصاص أي منظمة واحدة.
وتنامى عدد الدول الأعضاء في «مجموعة المعرضين العشرين» أو (مجموعة العشرين الضعيفة)، ليصبح 58 دولة بإجمالي عدد سكان يبلغ 1.5 مليار نسمة، وتنتج 5% فقط من إجمالي الانبعاثات الملوثة، ويبلغ ناتجها المحلي الإجمالي 2.4 تريليون دولار، ويضم المنتدى: النيجر، بوركينا فاسو، غانا، غينيا، تشاد، فلسطين جزر القمر، رواندا، السنغال، بنين، كوستاريكا، جنوب السودان، الكونجو الديمقراطية، السودان، ساحل العاج، إثيوبيا، جامبيا، ليبيريا، تنزانيا، اليمن، كينيا، لبنان، أوغندا، مدغشقر، إيسواتيني، لبنان، المغرب، مالاوي، منغوليا، قرغيزستان، أفغانستان، نيبال، بوتان، كمبوديا، فيتنام، بنجلاديش، الفلبين، تيمور الشرقية، المالديف، سريلانكا، جزرمارشال، بالاو، بابو غينيا الجديدة، فاناتو، فيجي، ساموا، كريباتي، توفالو، باربادوس، هاييتي، هندوراس، كولومبيا، نيكاراجوا، كوستاريكا، سانت لويزا، جزر الدومينكان، جرينادا، جواتيمالا، وجوانا.
كما يأتي ا(لصندوق المشترك متعدد المانحين CVF & V20)هو أداة مالية وتنفيذية استراتيجية طوعية لأصحاب المصلحة المتعددين، تهدف إلى تسهيل التنسيق بين الدول الأعضاء المعنية في المنتدى المعرض للخطر المناخي (CVF) ومجموعة العشرين الضعيفة (V20) لتعميق التعاون بين بلدان الجنوب للوفاء بالأولويات الرئيسية للعمل المناخي، سواء من حيث التكيف مع تغير المناخ أو التخفيف من آثاره.
يهدف الصندوق إلى المساهمة في تنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، واتفاق باريس، وكذلك أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة (SDGs)، مع التركيز على الهدف 13 بشأن العمل المناخي، بما يستوجب تسريع العمل المناخي عبر التنفيذ الفعال والمساهمة في تعزيز المساهمات المحددة وطنياً، ما يؤدي بشكل مباشر وغير مباشر إلى تحقيق منافع إنمائية للسكان المحليين، لا سيما بعض الدول الأكثر تعرضاً لتهديد المناخ في العالم.
يتبع.. خريطة طريق إماراتية.. «الانتقال العادل» بتكنولوجيا المناخ