دينا محمود، عبد الله أبوضيف، وأحمد عاطف (القاهرة، لندن)
إذا كان عمر العلاقات الدبلوماسية القائمة بين الدول العربية والصين يزيد على 66 عاماً، وذلك منذ أن دُشِنَت أولى هذه الروابط انطلاقاً من مصر عام 1956، فإن التواصل بين هاتين البقعتين المحوريتين من العالم لم ينقطع منذ أكثر من ألفيْ سنة، عبر طريق الحرير الذي جمع مختلف الحضارات القديمة، وأرسى قواعد النهضة الإنسانية في العصر الحديث.
وتشكل الزيارة التي بدأها الرئيس الصيني شي جين بينج إلى السعودية، ويجري خلالها لقاءات مع كبار المسؤولين في المملكة، بجانب مشاركته في قمتين خليجية - صينية وعربية - صينية، تذكيراً بهذه العلاقات الراسخة التي صمدت في وجه التحولات العاصفة التي شهدها العالم على مدار العقود القليلة الماضية.
يبدو الحراك الدبلوماسي المكثف الذي ستكون المملكة العربية السعودية ساحة له على مدى ثلاثة أيام، بحسب محللين، مؤشراً على حرص الصين من جهة، والدول العربية، ومنطقة الخليج في القلب منها، من جهة أخرى، على تعزيز الروابط المتنامية بينهما، في سياق دولي تتزايد فيه أهمية ترسيخ العلاقات بين الدول المحورية في العالم.
وقال أحمد سليمان، الباحث في الشؤون الآسيوية لـ«الاتحاد» إن العلاقات بين الصين والدول العربية متأصلة ومتبادلة منذ العصور القديمة، ولها جذور منذ طريق الحرير القديم، لكن انطلاقتها الحقيقية في العصر الحديث كانت في عام 2004 في منتدى التعاون الصيني العربي في 2004، مضيفاً أن ما يميز التعاون العربي الصيني هو أنه قائم على فكرة الكسب المشترك، أي أن تخرج جميع الأطراف رابحة.
ويجمع المراقبون على أن التعاون العربي الصيني الذي يبدو الآن على شفا دخول مرحلة انطلاق جديدة، يمثل نموذجاً فريداً من نوعه على الساحة الدولية، وذلك بفضل المرونة التي تميز بها، بما أتاح له الفرصة للتحول من تنسيقٍ ذي صبغة سياسية محضة تقريباً منذ نهاية خمسينيات القرن العشرين وحتى مطلع ثمانينياته، إلى علاقات يتوازى فيها المساران السياسي والاقتصادي، في العقود التالية لذلك.
ويرى أحمد سلام، المستشار الإعلامي الأسبق بالسفارة المصرية في بكين، أن هناك تطوراً سريعاً ومتنامياً، لافتاً إلى أن العقد الماضي يُعتبر في حقيقة الأمر عقداً استثنائياً في العلاقات.
وأضاف سلام لـ«الاتحاد» أن العلاقات تطورت تدريجياً بعد الخطاب المهم للرئيس الصيني شي أثناء زيارته لمصر في 22 يناير 2016 أمام جامعة الدول العربية بالقاهرة، ثم كانت الوثيقة الأكثر أهمية هي سياسة الصين تجاه الدول العربية الصادرة في يناير 2016، والتي نصت على أن الصين مستعدة لتنسيق خطط التنمية مع الحكومات العربية.
تواريخ بارزة
على طول مسيرة هذه العلاقات التاريخية، تبرز سنوات بعينها شكلت محطات مفصلية، ضُخَت فيها مزيداً من الدماء في شرايين الشراكة العربية الصينية. ففي عام 1963، وخلال أول جولة عربية له، طرح الزعيم الصيني شو إن لاي، ما عُرِفَ بالمبادئ الخمسة التي تحكم العلاقات بين الجانبين، والتي تقوم على دعم بكين لجهود العالم العربي لضمان استقلاله السياسي والاقتصادي، واحترامها لسياساته من دون تدخل في شؤونه، ودعوتها كذلك لمختلف بُلدان العالم، لأن تبدي احتراماً مماثلاً لسيادة الدول العربية.
ومن بين هذه التواريخ الحاسمة كذلك، عام 2004 الذي دُشِنَ خلاله منتدى التعاون الصيني العربي، وذلك قبل تسع سنوات فحسب من وضع بكين المنطقة العربية، على قائمة البقاع التي تحظى بالأولوية في إطار رؤيتها الاستراتيجية، وهو ما تلاه إطلاق الحزب الشيوعي الصيني عام 2016، ما عُرِفَ بـ «وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية».
وتعتمد هذه الوثيقة التي صدرت بمناسبة الذكرى السنوية الستين لتأسيس العلاقات الصينية العربية وتزامنت مع جولة أجراها الرئيس شي في المنطقة وقتذاك، على ما يصفه محللون بـ (معادلة 1 + 2 + 3)، التي يشكل مجال الطاقة محورها الرئيس، ويمثل مجالا البنية التحتية وتسهيل التجارة والاستثمار جناحيها، في حين تتخذ ثلاث نقاط ارتكاز لها؛ وهي الطاقة النووية، والفضاء والأقمار الاصطناعية، والطاقة الجديدة.
وتؤكد تلك الوثيقة أن العالم العربي شريك مهم للصين التي تسعى بدورها إلى توسيع رقعة تعاونها معه في مجالات مختلفة، سعياً لتحقيق المنفعة المشتركة، سواء في قطاعات تقليدية مثل الصناعة والزراعة أو في مجالات تعتمد بشكل أكبر على التقنيات الحديثة، كارتياد الفضاء والتكنولوجيا الدقيقة.
شراكة وثيقة
وعلى ضوء هذه الرؤية الشاملة، لا يصعب على الخبراء والمحللين، الإشارة إلى أبرز العوامل التي تُرسخ دعائم العلاقات العربية الصينية، لا سيما في ظل بزوغ نجم الصين كقوة لا يمكن تجاهلها على الساحة الدولية، خاصة أنها إحدى الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وذلك جنباً إلى جنب، مع تزايد الأهمية الاستراتيجية للعالم العربي الذي يُشار له في أدبيات وزارة الخارجية الصينية، باسم «منطقة غربي آسيا وشمالي أفريقيا».
فالصّين الطامحة لأن تصبح صاحبة الاقتصاد الأكبر في العالم بحلول عام 2030، تسعى لتعميق شراكتها مع المنطقة العربية الثرية بموارد الطاقة، والتي تقع في قلب ما يُعرف بـ «العالم القديم»، بما يعطيها القدرة على التحكم، في أهم طرق التجارة الواصلة بين الشرق الأقصى وأوروبا.
وبجانب النفط والغاز اللذين يعتمد عليهما الاقتصاد الصيني الضخم في إدارة محركات نموه المتسارع، يتميز العالم العربي بثقله البشري الهائل، وذلك بعدد سكان يزيد على 430 مليون نسمة، ما يجعل منه سوقاً جاذبة لصادرات بكين واستثماراتها، في مجالات شتى، على رأسها مرافق البنية التحتية، ومشروعات التكنولوجيا الفائقة، والطاقة والهندسة الكيمياوية، والمستحضرات الطبية وتصنيع المعدات، وغيرها.
«الحزام والطريق»
في ضوء الاهتمام المتبادل بتعزيز العلاقات الاقتصادية والاستثمارية، أصبحت الصين الشريك التجاري الأكبر للدول العربية متفوقة على الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين 330 مليار دولار أميركي عام 2021، بعد أن كان لا يتجاوز 36.7 مليار في عام 2004، وهو عام تدشين منتدى التعاون الثنائي بينهما.
بجانب ذلك، أصبحت الصين، إما شريكاً تجارياً رئيساً أو مصدراً رئيساً للاستثمار، بالنسبة لأكثر من اثنتي عشرة دولة عربية، وهو ما يتوازى مع سعى بكين في الوقت الحاضر، لتعزيز تحالفاتها الدولية، عبر منظمات وتجمعات مثل «بريكس» و«شنغهاي»، و«آسيان»، وكذلك الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية، خاصة بعد أن أتمت ترتيب بيتها الداخلي، وأُعيد انتخاب رئيسها شي جين بينج لفترة ولاية ثالثة.
أما الدول العربية، فتلعب في المقابل دوراً بارزاً، في إطار مبادرة «الحزام والطريق» التي أطلقتها بكين عام 2013 لتعزيز التعاون والتنسيق بين دول مختلفة تتوزع على عدد من قارات العالم.
فالمبادرة تضم 20 دولة عربية، لم يتردد عدد منها في أن يعمل على مواءمة استراتيجيته التنموية مع المبادرة التي تمتد حتى عام 2049، بالتزامن مع حلول الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية.
ولفت أحمد، سلام، المستشار الإعلامي الأسبق بالسفارة المصرية، إلى أهمية مبادرة الحزام والطريق باعتبارها أساساً لتمتين العلاقات الاستراتيجية الصينية الحديثة.
وقال إن هناك فرصاً كبيرة، يمكن العمل عليها بين الدول العربية والصين، خصوصاً في ضوء مبادرة التنمية العالمية التي طرحتها الصين مؤخراً لتحقيق التنمية المستدامة لعام 2030، بما يحقق أهداف التنمية الخضراء، وهي مبادرة عبرت الدول العربية عن دعمها.
وأضاف أن من هذه الفرص هو الاستثمار المشترك في مجالات التعدين، خاصة في مصر والسودان والجزائر وموريتانيا، وإنشاء مناطق صناعية تستغل فيها الإمكانيات التكنولوجية والتصنيعية العربية والصينية على حد سواء. وأكد أهمية استغلال المواد الخام التي تمتلكها الدول العربية في التصنيع، خاصة تلك الموجودة في بعض الدول العربية بشكل حصري، كالرمال السوداء في مصر، وكذا الصمغ العربي الذي ينتج السودان منه 80% من إنتاج العالم.
سلام وتنمية
تثمن كل من الصين والدول العربية السلام والأمن بوصفهما شرطاً أساسياً ومسبقاً للتنمية، وفي الوقت الذي تشرع فيه الصين في رحلة جديدة لتحويل نفسها إلى دولة اشتراكية حديثة عظيمة من جميع النواحي، فإنها تظل ملتزمة بتقاسم فرص النمو مع الدول الأخرى، خاصة الدول العربية التي هي في أمس الحاجة إلى التنمية والأمن والاستقرار، حسبما أفادت وكالة الأنباء الصينية الرسمية «شينخوا» في تقرير خاص بمناسبة زيارة الرئيس الصيني شي جين بينج إلى السعودية.
وبحسب التقرير، قال الرئيس شي في خطابه في مقر جامعة الدول العربية في عام 2016، إن مفتاح معالجة المشكلات الشائكة هو تسريع التنمية، مشدداً على أنه يتعين على الصين والدول العربية تعزيز التعاون والسعي معاً من أجل السلام والتنمية للبشرية. وفي رسالة تهنئة أرسلها الرئيس شي بمناسبة انعقاد القمة العربية الـ31 في الجزائر العاصمة الشهر الماضي، قال الرئيس شي إن الجامعة العربية، الملتزمة بالسعي إلى تحقيق القوة من خلال الوحدة في العالم العربي، تعمل بنشاط على تعزيز السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، وتبذل جهوداً حثيثة لصون التعددية والمصالح المشتركة للدول النامية.
ويعتقد الخبراء أن دور الصين وخبرتها في التنمية الذاتية، بما في ذلك التصنيع والتحديث، مطلوبان بشكل خاص في إعادة إعمار البلدان المدمرة مثل سوريا وليبيا واليمن. وأشار سامر خير أحمد، وهو كاتب وخبير أردني متخصص في العلاقات العربية الصينية، إلى أنه «من المهم أن تقدم الصين خبراتها في تطوير البنية التحتية في العالم العربي في الموانئ والنقل الدولي الذي يربط المنطقة العربية بالعالم، وهو ما سيساعد في جعل المنطقة العربية تستعيد مكانتها كحلقة وصل بين آسيا وأوروبا وأفريقيا».
وقال الرئيس شي في رسالة تهنئة بمناسبة انعقاد القمة الـ31 لجامعة الدول العربية في الأول من نوفمبر إن «الصين مستعدة للعمل مع الدول العربية لتعزيز الدعم المتبادل وتوسيع التعاون في جهد مشترك لبناء مجتمع صيني عربي ذي مستقبل مشترك للعصر الجديد، من أجل خلق مستقبل مشرق للعلاقات الصينية العربية وتقديم مساهمات للسلام والتنمية العالميين».
وقال ناصر عبد العال، أستاذ اللغة الصينية ونائب عميد كلية «الألسن» بجامعة عين شمس في مصر، إن مبادرة التنمية العالمية تمنح الصين وشركاءها منصة لتحقيق أهدافها الإنمائية في ضوء أجندة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030.
وقال أحمد قنديل، رئيس وحدة الدراسات الدولية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن المبادرات الصينية تتميز بالحيادية والموضوعية واحترام الأوضاع الداخلية للدول النامية، مع التركيز على رفع مستوى معيشة الشعوب، ولهذا السبب تلقت ترحيباً كبيراً من الدول النامية.
حصة كبيرة
تسهم دول الخليج العربية بقوة في دفع قاطرة العلاقات العربية الصينية إلى الأمام، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بينها وبين بكين في عام 2019، 180 مليار دولار أميركي، فضلاً عن اهتمام الجانبين بتعزيز التعاون فيما بينهما على صعيد مجالات مثل تجارة السلع والخدمات، واتصالات الجيل الخامس، والاقتصاد الأخضر، وتقنيات الذكاء الاصطناعي.
كما أن الدول الخليجية تتربع على رأس قائمة البلدان العربية الجاذبة للاستثمارات الصينية. ففي الفترة ما بين عاميْ 2005 و2021، استحوذت السعودية على 21 في المئة من هذه الاستثمارات، تلتها دولة الإمارات العربية المتحدة بـ 17 في المئة تقريباً منها.
وبالنسبة للإمارات تحديداً، احتلت الصين في عام 2020 المركز الثالث على قائمة أكبر البُلدان المستثمرة في الدولة، بحجم استثمارات فاقت قيمته 5.4 مليار دولار أميركي. وقبل عامين كذلك، بلغ حجم التجارة غير النفطية بين الجانبين 74.4 مليار دولار أميركي.
تضافر العوامل
اعتبر الدكتور ياسر جاد الله، مدير مركز البحوث الصينية السابق، أن الظروف العالمية الراهنة تبرز أهمية تعزيز التعاون والنشاط بين الصين من جانب ومختلف الدول العربية من جانب آخر.
وأوضح أن هناك مصالح مشتركة بين الصين والأسواق العربية، متوقعاً طفرة في مختلف مجالات بين الصين والمنطقة، لاسيما الطاقة والتجارة والاستثمار إلى جانب الاستثمارات المشتركة في تكنولوجيا الأقمار الصناعية والطاقة المتجددة.
ومنذ عام 2005، وقعت الصين عقوداً مع الدول العربية بقيمة تبلغ قرابة 148 مليار دولار، خُصِّصَ أكثر من 30 في المئة منها لمشروعات الطاقة، بجانب المشاريع الإنشائية، وتوريد سلع، تمتد ما بين الآلات والمعدات الثقيلة إلى الملبوسات.
وبحسب البيانات والدراسات، ارتفعت قيمة الأموال الصينية المخصصة للأغراض التنموية في العالم العربي، بحلول منتصف العقد بقيمة عشرة أضعاف، عما كانت عليه قبل ذلك، بما يسهم في خلق مئات الآلاف من فرص العمل الجديدة، في مجتمعات يعاني الكثير منها من تفاقم معدلات البطالة.
ويعزز تضافر العوامل السياسية والاقتصادية والتاريخية التي تجمع ما بين المنطقة العربية والصين، آفاق اكتساب العلاقات بينهما مزيداً من الزخم والقوة في السنوات المقبلة، وذلك في ظل الحرص البالغ من جانب الطرفين، على احترام خصوصية كل منهما، وانتهاج سياسات متوازنة تقوم على تنويع الشراكات والتحالفات.