دينا محمود (لندن)
على مسافة امتدت من قلب العاصمة البريطانية لندن وحتى قلعة وندسور التاريخية الواقعة إلى الغرب منها بنحو 35 كيلومتراً، قطعت الملكة إليزابيث الثانية، أطول من تربع على عرش المملكة المتحدة، رحلتها الأخيرة في مراسم جنائزية مهيبة، أُجريت على مدار نحو تسع ساعات، بمشاركة قرابة 200 من قادة وزعماء وممثلي دول العالم المختلفة، ووسط حشود اصطفت على طول الطرق، التي مر فيها الجثمان.
وتقدم الملك تشارلز الثالث وأشقاؤه وبقية أفراد الأسرة المالكة في بريطانيا، الموكب الجنائزي، الذي بدأ صباح اليوم، بنقل نعش الملكة الراحلة من بهو «قاعة وستمنستر»، الذي سُجي فيه لأكثر من أربعة أيام لكي يتسنى لمئات الآلاف من الأشخاص إلقاء النظرة الأخيرة عليه، إلى كنيسة «دير وستمنستر» التاريخية القريبة.
ونُقِل النعش، الذي وُضِعَ عليه التاج الملكي وصولجان وكرة ذهبية بجانب إكليل من الزهور، على متن عربة مدفع تابعة لقوات البحرية البريطانية، تولى 142 من عناصر هذه القوات جرها، وذلك في تقليد يُتبع للمرة الأولى منذ عام 1979، في جنازة اللورد مونتباتن، عم الأمير فيليب زوج الملكة الراحلة، الذي كان قد توفي بدوره في مارس من العام الماضي.
كما كانت العربة نفسها، قد استُخْدِمَت في جنازة الملك جورج السادس والد الملكة إليزابيث، عام 1952.
وهذه هي المرة الأولى، التي يشاهد فيها البريطانيون بثاً مباشراً لمراسم نزع التاج والصولجان والكرة الذهبية من فوق نعش أحد ملوكهم، رغم أن مراسم جنازة جورج السادس، والد الملكة الراحلة، كانت الأولى التي تُبث تلفزيونياً عام 1952.
وبحضور نحو 2000 شخص، بينهم عشرات من قادة ورؤساء دول وحكومات العالم جنباً إلى جنب مع كبار أعضاء الأسرة المالكة في بريطانيا، أُقيمت مراسم الجنازة الرسمية في «دير وستمنستر»، تلك الكنيسة التاريخية، التي احتضنت من قبل مراسم عقد قران الملكة إليزابيث الثانية نفسها عام 1947، ثم تتويجها بعد ذلك بست سنوات.
وقاد القس ديفيد هويل، المراسم الجنائزية، وهي الأولى لعاهل بريطاني في هذا المكان منذ القرن الثامن عشر، رغم أنه شهد 2002 جنازة الملكة إليزابيث الأم. وأشاد هويل بالمسيرة الحافلة للملكة الراحلة، وتفانيها من «أجل وطنها ودول منظمة الكومنولث، وكذلك محبتها لأسرتها».
كما تحدثت خلال المراسم، رئيسة الحكومة البريطانية ليز تراس والأمين العام للكومنولث باتريشيا سكوتلاند، بجانب أسقف كانتربري جاستن ويلبي، قبل أن تُختتم الجنازة الرسمية، بأداء عازف الناي الخاص بالملكة الراحلة، بناء على توصيةٍ لها قبل وفاتها، مقطوعة جنائزية، أعقبت السلام الوطني، ودقيقتيْ صمت، شهدتهما مختلف أنحاء المملكة المتحدة، وتوقف خلالهما تحليق الطيران فوق وسط لندن، لتجنب حدوث أي ضوضاء.
ونُقِلَ الجثمان في موكب جنائزيٍ ثانٍ راجل، سار من «دير وستمنستر» حتى «قوس ولينجتون»، على أحد مداخل متنزه «هايدبارك» الشهير، وتقدمه الملك تشارلز وأبرز أفراد أسرته، على وقع قرع أجراس ساعة «بيج بِن» الشهيرة وطلقات المدفعية، قبل أن يبدأ رحلته على متن عربة، إلى قلعة «وندسور» التاريخية، وذلك في جنازة رسمية هي الأولى في بريطانيا، منذ وفاة رئيس الوزراء الأسبق ونستون تشرشل عام 1965.
المدفن الملكي
شهدت قلعة «وندسور»، خلال فترتيْ العصر والمساء مراسم جنائزية أخرى، ضمت إحداهما مئات الأشخاص، بينما اقتصرت الأخرى، على أفراد الأسرة المالكة، لتُدفن بعد ذلك الملكة إليزابيث، في كنيسة الملك جورج السادس التذكارية الصغيرة، التي تشكل جزءاً من كنيسة القديس جورج بالقلعة، التي جعلتها الملكة الراحلة مقراً لإقامتها خلال فترة تفشي وباء «كورونا».
ودُفِنَت الملكة في ضريح نُقِشَ عليه اسمها وعاما ولادتها ووفاتها، جنباً إلى جنب مع والدها ووالدتها وشقيقتها، وأيضاً زوجها الأمير فيليب، الذي وُضِعَ نعشه في ما يُعرف بـ «المدفن الملكي» بقلعة وندسور، منذ وفاته قبل عام ونصف العام، لكي تتم مواراته الثرى إلى جوار قرينته.
وفي إطار خطة تأمين الجنازة، التي شارك فيها قرابة 10 آلاف شرطي، حلقت مروحيات وطائرات مُسيّرة في أجواء قلب لندن، وعلى طول الطريق المؤدية إلى قلعة «وندسور»، كما أُغلقت شوارع رئيسة في وسط العاصمة البريطانية أمام السيارات، وتوقف عدد من محطات الحافلات وقطارات الأنفاق القريبة عن العمل، وُوضِعَت حواجز معدنية بلغ طولها الإجمالي نحو 36 كيلومتراً، في أكثر من منطقة قريبة من مقر البرلمان ومتنزه «هايدبارك»، إما لإغلاق بعض الطرقات أو لتحديد اتجاه سير المشاة في طرقات أخرى.
وبحسب خبراء، حطمت الجنازة المتلفزة للملكة إليزابيث الثانية، جميعَ الأرقام القياسية، لأحداث تم بثّها سابقاً في نقل مباشر، حيث قدروا متابعتها من قبل أكثر من أربعة مليارات شخص، حول العالم.
ووفقاً لهذه التقديرات، تعتبر جنازة الملكة الراحلة الحدث المباشر الأكثر مشاهدة في العالم على الإطلاق.
وكانت السلطات البريطانية قد أعلنت بُعيد وفاة الملكة الراحلة في قصر بالمورال في أسكتلندا في الثامن من الشهر الجاري عن عمر ناهز 96 عاماً، أن يوم الجنازة سيكون عطلة رسمية، وهو ما أتاح الفرصة للكثير من البريطانيين من داخل لندن وخارجها، للمشاركة في إلقاء النظرة الأخيرة على نعش الملكة الأطول عهداً في التاريخ الحديث لبلادهم، وهو يجوب شوارع وسط العاصمة للمرة الأخيرة. وبعيداً عن الطرقات التي سار فيها الموكب، أغلقت غالبية المحال التجارية أبوابها، جنباً إلى جنب مع المدارس والمصالح الحكومية والمسارح ودور السينما.
ومَثَلَّ مواراة الجثمان الثرى، ذروة المراسم الجنائزية التي شهدتها بريطانيا، منذ وفاتها قبل 12 يوماً.
أسرة الملكة تغالب الدموع
ارتسمت الكآبة والشحوب على وجوه أقرب أقارب الملكة الراحلة إليزابيث وهم يتبعون نعشها إلى كنيسة وستمنستر في مراسم جنازتها، اليوم، وهي مراسم مرتبة ومصممة بدقة عالية.
وتألف الصف الأول وراء النعش، الذي وضع على عربة مدفع يجرها جنود من البحرية الملكية من قاعة وستمنستر القريبة إلى الكنيسة، من الملك تشارلز الابن الأكبر للملكة الراحلة وباقي أشقائه الأميرة آن والأميرين آندرو وإدوارد.
ووراءهم جاء الأميران وليام وهاري نجلا الملك تشارلز، وأفراد بارزون آخرون من العائلة المالكة، وظهرت جلياً على وجوههم مشاعر التأثر، وغالبوا دموعهم، في هذه اللحظة المهيبة.
وتوجه الملك تشارلز ووريث العرش ابنه الأمير وليام للقاعة معاً في عربة ملكية واستُقبلا بالتصفيق من حشود المعزين والمشيعين الذين ملأوا شوارع وسط لندن للمشاركة في المراسم.
لكن الصمت خيم تماماً على الجميع لحظة خروج نعش الملكة وسار أفراد العائلة الملكية على صوت المزامير وقرع الأجراس. وحيا الملك تشارلز والأميرة آن والأميران إدوارد ووليام، وجميعهم يرتدون الزي الرسمي العسكري الملكي، النعش وهو يُرفع عن عربة المدفعية أمام الكنيسة. وبداخل الكنيسة، كانت تنتظر كاميلا عقيلة الملك الجالس على العرش، وكيت زوجة الأمير وليام وطفلاهما جورج، البالغ تسع سنوات، وتشارلوت، البالغ سبع سنوات، وكذلك ميجان زوجة الأمير هاري. وتبع أفراد العائلة المالكة النعش على طول ممشى الكنيسة، وأظهرت لقطات تلفزيونية مقربة لوجوههم الحزن والأسى الظاهرين.