لم تغيّر عشر سنوات من الحرب وجه سوريا عبر تدمير حاضرها وتهديد مستقبل شعبها فحسب، بل أتت على معالم أثرية عريقة وقضت على تراث رمزي ثمين من دون رجعة.
في سوريا، تركت حضارات عدة، من الكنعانيين إلى الأمويين، مروراً باليونانيين والرومان والبيزنطيين، تراثاً شاهداً عليها.
وكانت البلاد تفخر بمواقعها الأثرية في تدمر وحلب وإدلب ودرعا ودمشق والرقة وغيرها.
وقد يكون النزاع الذي اندلع في سوريا في مارس 2011 أنتج الكارثة الإنسانية الأسوأ خلال القرن الماضي، لكن الهمجية التي ضربت التراث الثقافي أسوأ ما مرّ أيضاً على أجيال كثيرة.
خلال سنوات قليلة، تحوّلت مدن قديمة إلى ساحات قتال واستحالت الأسواق الأثرية دماراً، ونُهبت قطع من مواقع أثرية أو متاحف كانت تحفظ بين جدرانها روايات من التاريخ.
في إحدى قاعات متحف تدمر العريق في وسط البادية السورية، يستذكر مدير المتحف منذ 20 عاماً، خليل حريري، معاناته مع فريقه لإنقاذ ما أمكن من قطع أثرية قبل وقوعها، كما كنوز أخرى في تدمر، في أيدي تنظيم «داعش» الإرهابي الذي استولى على المنطقة في العام 2015.
ويقول حريري (60 عاماً): «مرّت عليّ أيام صعبة جداً، حوصرنا مرات عدة داخل المتحف».
ويروي كيف ترك عائلته لنقل قطع أثرية إلى «مكان آمن خارج تدمر»، مستعيداً لحظة عودته إلى المدينة بعد سيطرة الجيش السوري عليها.
ويقول: «يوم خروجي من تدمر كان صعباً (...)، لكن اليوم الأصعب في حياتي كان يوم عودتي إليها ورؤيتي للآثار محطمة والمتحف مخرّباً».
ويضيف: «كسّروا وحطّموا كل وجوه التماثيل التي بقيت في المتحف ولم نتمكن من إنقاذها»، مشيراً إلى أن «بعض التماثيل يمكن ترميمه، لكن البعض الآخر تفتت» تماماً.
ويعود تاريخ مدينة تدمر المعروفة بـ«لؤلؤة الصحراء» أو «عروس البادية»، إلى أكثر من ألفي عام، وهي مدرجة على قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) للتراث العالمي الإنساني.
في العام 129، منح الإمبراطور الروماني أدريان تدمر وضع «المدينة الحرة». وعرفت آنذاك باسمه «أدريانا بالميرا»، وعاشت عصرها الذهبي في القرن الثاني بعد الميلاد.
عرفت المدينة أوجّ ازدهارها في القرن الثالث في ظل حكم الملكة زنوبيا التي تحدّت الإمبراطورية الرومانية.
لكن وحشية تنظيم «داعش» الإرهابي خرّبت المدينة، فدمر الإرهابيون تمثال أسد أثينا الشهير ومعبدي بعل شمين وبل بالمتفجرات، كما قضوا على عدد من المدافن البرجية، وحولوا قوس النصر الشهير إلى رماد.
ولم تقتصر آثام التنظيم على تدمير آثار المدينة فحسب، إذ ارتكب عناصره أشنع جرائمهم فيها. واستخدموا المسرح الروماني لتنفيذ عمليات إعدام جماعية، بثوا صور بعضها عبر أدواتهم الدعائية.
وبعد أيام قليلة من سيطرتهم على تدمر، أعدم الإرهابيون مدير الآثار السابق للمتاحف في المدينة خالد الأسعد (82 عاماً).
ويعد التخريب والدمار اللذان لحقا بتدمر من أبرز الخسائر التي تكبدها التراث السوري، ولا يمكن تعويضها، فيما لم يستثن النزاع منطقة من البلاد.
ويقول جاستين ماروزي، المؤلف والمؤرخ الذي كتب عن المنطقة وتراثها، «بكلمتين، إنها كارثة ثقافية».
ويذكر هذا الدمار الذي لحق بالآثار السورية في العقد الأخير بعصر آخر، عندما تسببت الإمبراطورية المغولية التي أسسها جنكيز خان، بمجازر مماثلة.
ويوضح ماروزي، مؤلف كتاب «الإمبراطوريات الإسلامية: خمس عشرة مدينة تعرّف الحضارة»، «عندما يتعلق الأمر بسوريا والشرق الأوسط على وجه الخصوص، لا يسعني إلا التفكير على الفور بتيمور، أو تيمورلنك الذي تسبب بجحيم هنا عام 1400».
ويجر الكلام عن الفاتح المغولي إلى مصير حلب، المدينة التي كانت تعد العاصمة الاقتصادية قبل النزاع، وتضمّ إحدى أفضل المدن القديمة المصنفة جزءاً من التراث العالمي.
وإذا كان تيمورلنك أمر بذبح الآلاف من سكان حلب لدى غزوها قبل ستة قرون، إلا أن الدمار الذي حلّ بها خلال العقد الأخير لم يكن صنيعة غزاة خارجيين.
وخلال توليه مهامه كمدير عام للآثار والمتاحف، عاصر مأمون عبد الكريم (54 عاماً) السنوات الأكثر قسوة على آثار سوريا بين 2012 و2016.
ويقول من متحف دمشق، بينما يقف قرب تمثال أسد اللات الذي أعيد ترميمه بعد تهشيمه في تدمر: «منذ نحو ألفي سنة، لم يمرّ في تاريخ سوريا أسوأ مما مرّ خلال فترة الحرب».
ويضيف: «إنها حالة شمولية من الدمار، لا نتحدث عن زلزال في منطقة معينة، أو حريق في مكان معين، أو حرب في مدينة معينة، نتحدث عن الجغرافيا السورية بأكملها».
وتعدّ حلب واحدة من أقدم المدن المأهولة بالسكان لفترة متواصلة في العالم. إلا أنّ الحصار المحكم الذي لحق بأحيائها الشرقية التي بقيت لسنوات تحت سيطرة الفصائل المعارضة وما تبعه من معارك وقصف، عاث فيها دماراً.
وذكر تقرير نشرته مؤسسة جيردا هنكل والجمعية السورية لحماية الآثار ومقرها باريس، العام الماضي، أن أكثر من 40 ألف قطعة أثرية نُهبت من المتاحف والمواقع الأثرية منذ بداية الحرب.
ونتج عن تهريب الآثار خلال سنوات الحرب عائدات بملايين الدولارات استفاد منها تنظيم «داعش» الإرهابي.