إميل أمين
تُحلق، مساء اليوم، في سماء العراق طائرة قداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، في أول زيارة لبلاد الرافدين، مهد أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام، وهي الزيارة الأولى لبابا كاثوليكي للعراق في تاريخ باباوات روما، كما أنها الرحلة الأولى أيضاً التي يقوم بها قداسته منذ بداية تفشي جائحة «كورونا».
وفي عام 1999 كان حلم البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، هو أن يحج إلى العراق، وتحديداً إلى مدينة «أور» التاريخية، مهد النبي إبراهيم عليه السلام، الواقعة قرب مدينة الناصرية، جنوبي العراق، غير أن ظروف الحظر الجوي التي كانت مفروضة على العراق، في تلك الفترة، حالت دون ذلك.
وفي حديثه عن الزيارة، قال البابا فرنسيس: إنه مصمم على القيام بهذه الرحلة بصفته «راعي المعذبين»، والعراق بكل ملله ونحله، وطوائفه ومذاهبه، عانى لسنوات طويلة من الألم والمرارة، والخوف والفقد، وبخاصة بعد ظهور تنظيم «داعش» الإرهابي، وتراجع روح التسامح والتعايش، وارتفاع نوازع التشدد الديني والعرقي والطائفي، فيما تفاقم، نتيجة لذلك، العنف الذي انعكس بشكل مباشر على أوضاع المكون المسيحي العراقي التاريخي.
«كلنا إخوة»
لن يفوتنا طرح السؤال، ونحن بين يدي هذه الرحلة التاريخية: أليس إقدام قداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية على هذه الخطوة التاريخية، رغم تفشي الجائحة من جهة، والأوضاع الأمنية المضطربة في العراق من جهة أخرى، ترجمةً حقيقية لوثيقة «الأخوة الإنسانية»، التي تم توقيعها في أبوظبي في فبراير من عام 2019، ورجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر، لما جاء في رسالة قداسة البابا العامة الأخيرة التي حملت عنوان «كلنا إخوة»؟
واقع الأمر أن أفضل من قدم جواباً على هذا السؤال هو الأب «أنتونيو سبادارو»، رئيس تحرير مجلة «تشيفيلتا كاتوليكا»، الذي اعتبر أن البديل الوحيد للنظرة «الأبوكاليبسية» أو الكارثية، هو نظرة الأخوة، إذ تشكل الرد الملموس والإيجابي على المخاطر التي تترتب على نظرة عنيفة للتاريخ يمكن أن تقود إلى الانغلاق وقطع العلاقات بين الأفراد والشعوب، وتقضي على البذور التي ينمو منها السلام.
رسالة الزيارة
وهكذا ينطلق قداسة البابا فرنسيس إلى العراق رغم تقدمه في العمر، وما يلف العراق من هواجس لوجستية وأمنية، معتبراً أن الأخوة رسالته، والمحبة دربه، وأن البشر متساوون حتى وإن اختلفوا، ولكن من غير أحقاد. وآمن الرجل ذو الثوب الأبيض بأن الأخوة ترسخ الوسطية والتلاقي، وتعمل على بناء مجتمع، مدني، وتعتني بالآخرين.
والثابت أن جائحة «كوفيد-19» عمقت مشاعر الانعزالية لدى كثير من الناس عبر العالم، على رغم إرادتهم، طوال أكثر من عام، وجعلت العلاقات بين البشر افتراضية، تقوم على التواصل في الفضاء السيبراني، الأمر الذي لا يغني أبداً عن فرح اللقاء الأخوي وجهاً لوجه، وعلى التبادل الإنساني بين الأفراد المختلفين عبر القارات، حيث يعيش الجميع على سطح كوكب واحد هو «أُمنا الأرض».
رجل سلام
وشعار رحلة قداسة البابا إلى العراق، «جميعكم إخوة»، وثمة حمامة بيضاء ترمز إلى السلام، ولسان حال الشعب العراقي يقول: إننا نحتاج إلى رجل السلام، ولعله يكون من قبيل الفأل الحسن لبلادنا التي تعاني شروخاً في جسدها، أدت إلى ضياع الأمن والأمان، وتوارى السلام منذ نحو ثلاثة عقود من الزمن أو أكثر.
وبهذا يمضي قداسة البابا فرنسيس، ولكي يجعل من وثيقة «الأخوة الإنسانية» واقعاً حياً ومعيشاً، وينقل بنود وثيقة أبوظبي إلى الواقع العملي على الأرض، ولاسيما من خلال اللقاء الذي سيجري على أرض مدينة «أور»، والذي يضم جميع أتباع الديانات الموجودة في العراق، وتليه صلاة مشتركة.
وفي الموصل، المدينة التي هرب منها 120 ألف مسيحي في ليلة واحدة، خوفاً من الوقوع في أيدي «الدواعش»، سيصلي البابا على أرواح ضحايا أعمال العنف التي جرت خلال احتلال المدينة من قبل أصحاب الرايات السوداء.
البابا في النجف
وفي مدينة النجف، ستتجسد الأخوة الإنسانية، بشكل غير مسبوق، من خلال لقاء يجمع قداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، مع المرجع العراقي علي السيستاني، الذي علا صوته كثيراً بالرفض للجرائم «الداعشية» البشعة في حق الإيزيديين والمسيحيين العراقيين.
ويمكن للاجتماع بين قداسة بابا الكنيسة الكاثوليكية ، والمرجع العراقي، أن يمثل تتويجاً لتبادل طويل لعلاقات التقارب والتعاطف بين المسيحيين والسيستاني في العقود الأخيرة.
وتبدو زيارة قداسة البابا فرنسيس إلى العراق، علامة رجاء، لأنه يحمل إلى هذا الشعب، وإلى جميع العراقيين، إعلان تعزية وسلام وإعجاب بقدرتهم على البقاء إخوة، رغم كل ما عانوه من ظروف غير إنسانية، كان يمكن أن تدفعهم في طريق من غير رجعة إلى مسار الأخوة.
دستور عالمي
وعن دور قداسة بابا الكنيسة الكاثوليكية الذي يقوم به اليوم عالمياً، وخصوصاً في ظل زيارته هذه للعراق، يتحدث الكاردينال ليوناردو ساندري، عميد مجمع الكنائس الشرقية، بقوله: إن قداسة البابا فرنسيس يقدم للعالم الآن دستوراً عالمياً جديداً، إذا أردنا أن نسميه كذلك، وهو دستور يتمثل في الدعوة لاحترام هوية كل ديانة، الأمر الذي يمثل توجهاً لبناء عالم جديد تشمله أطر السلام والعدالة والحرية، مع احترام حقوق جميع الأشخاص، وصون الحريات الدينية، والحياة البشرية، لأننا جميعاً إخوة.
والحقيقة المؤكدة هي أن زيارة قداسة البابا فرنسيس إلى العراق تجسد جميع الجوانب الموجودة في وثيقة الأخوة الإنسانية، وأن الأمر يشبه اتخاذ خطوة ملموسة من الأفعال، وبالتالي سيكون الأمر أشبه بالقول إنه من هناك، ومن وسط الألم العراقي بنوع خاص، ومن خلف غيوم دخان الكراهية والعداءات، والتطرف والأصوليات، يمكننا معاً أن نبني عالماً جديداً من الأمل والرجاء.
روافد حضارية
ولعل البيان الرسمي لوزارة الخارجية العراقية عن هذه الزيارة التاريخية والاستثنائية، يدفع العراق والعراقيين في طريق البحث عن القاسم المشترك الأعظم لدولة ذات روافد حضارية عميقة، بابلية، وآشورية، وسومرية، وكلدانية، وعربية، دولة يليق بها السؤدد والمجد عبر الزمان والمكان، ولهذا فإن خطوة البابا فرنسيس الجريئة والشجاعة، تدفع العراقيين للعمل معاً على إظهار التنوع الثقافي والديني، وضرورة الحفاظ عليه، باعتباره ركيزة توفيق لا تفريق للشعب العراقي.
وقد أحسن رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي حين اعتبر أن زيارة قداسة البابا ستسهم في ترسيخ الاستقرار، وإشاعة روح التآخي بين العراقيين، وعموم المنطقة، مشيراً إلى أن جهود قداسة البابا مشهود لها حول العالم في الحد من الصراعات، وتغليب الحكمة والعقل، وإعلاء قيمة الإنسان، فوق كل المصالح السياسية والنزاعات والحروب.
ولكن، هل ستغير زيارة البابا للعراق أحواله ومآلاته دفعة واحدة؟
تقتضي الواقعية السياسية أن لا نُحمّل زيارة قداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية ما لا تحتمل، فهو لا يملك فرقاً عسكرية، نعم، ولكن يبقى الرجل ممثلاً للضمير العالمي الحي، وهو ما قد يلفت أنظار العالم وأصحاب اليد الطولى إلى مأساة العراق، والإسراع إلى معالجة الأخطاء التي جرت تاريخياً على أراضيه، منذ قرابة عقدين من الزمن.
إن قداسة البابا فرنسيس والبابوية قوة إقناع معنوية، باتت محملة بدستور وثيقة «الأخوة الإنسانية»، من أجل عالم أكثر حرية وسلاماً وإخاءً وعدالة وكرامة.