خولة علي (أبوظبي)
حيث تنتشر مزارع النخيل، تبرز الكثير من المهن والصناعات التقليدية التي تتناقلها الأجيال، ومنها صناعة الدبس التي تعد واحدة من الصناعات الغذائية، التي شكلت جزءاً لا يتجزأ من حياة الأجداد وأثّرت بشكل كبير في ثقافتهم واحتياجاتهم اليومية، فصناعة التمور وتحضير الدبس ليست مجرد مهنة، بل هي تراث حي يعبر عن عبقرية الإنسان الإماراتي في التكيف مع بيئته وتحقيق الاكتفاء الذاتي بموارد بسيطة، فهي حكاية تُروَى في كل حبة تمر وفي كل قطرة دبس، حاملة عبق الماضي وأصالته.
مهنة متوارثة
يقول حمد أحمد البدواوي، الذي يشارك جده في حفظ التمور وتجهيزها لصناعة الدبس: «تعلمت هذه المهنة من جدي، وهي مهنة متوارثة منذ القِدم، مع انتشار بساتين النخيل، التي هي مصدر أساسي لاحتياجات الأهالي سواء من الغذاء أو المسكن، فأي قطعة منها يتم الاستفادة منها بأساليب متنوعة، لتحمل في طياتها عبق التاريخ وروح الأصالة».
«المدبسة»
وبكل همة وفخر واعتزاز يساعد البدواوي جده في نقل خصف التمر ورصه في غرفة صناعة الدبس والتي تسمى «المدبسة»، ويعرّف الدبس قائلاً: «هو عصارة التمر النقية التي تستخرج بعناية وبدون أي تدخل صناعي، ليكون منتجاً طبيعياً عالي الجودة يستخدم في مختلف الأطعمة الإماراتية التقليدية»، موضحاً أن عملية استخراج الدبس ليست فقط وسيلة لتحويل التمر إلى منتج جديد، بل هي طقس يعبر عن التراث الإماراتي وأهمية النخيل في حياة سكان المنطقة.
صناعة الدبس
وعن كيفية صناعة وتحضير الدبس، يقول البدواوي: أولاً يتم تجفيف التمور بعناية، ثم وضعها في «خصافة»، وهي أكياس مصنوعة من سعف النخيل تُستخدم لتخزين التمور بطريقة تقليدية، ثم تُوضع هذه الأكياس داخل غرفة مغلقة مخصصة لهذا الغرض، وتتميز بأنها جافة ومعزولة تماماً، ومع مرور الوقت، يبدأ الدبس بالنزول تلقائياً دون أي تدخل بشري.
وهذه العملية التي تبدو بسيطة تحمل في طياتها الكثير من التفاصيل الدقيقة التي تتطلب صبراً وخبرة، وهو ما يكسب المنتج النهائي طعمه الفريد وجودته العالية.
إرث مستمر
يرى البدواوي أن صناعة الدبس ليست مجرد عملية إنتاج غذائي، بل هي قصة تحكي عن تكيف الأجداد مع قلة الموارد الغذائية، وكيف استطاعوا استغلال النخيل بكل ما يقدمه من فوائد قائلاً: «تعلمت من هذه المهنة أن الصبر والابتكار هما مفتاح النجاح، لقد استطاع أجدادنا إنتاج غذاء يكفي احتياجاتهم الأساسية من نفس الشجرة، فحولوا التمر إلى منتج يدوم طويلاً ويُستخدم في تحضير العديد من الأطباق التي لا تخلو منها السفرة الإماراتية». ولا يتوقف دور البدواوي وأسرته عند تعلم هذه المهنة، بل يتعداه إلى المساهمة في الحفاظ عليها في كل موسم؛ حيث يشاركون جدهم في إعداد الدبس، معتبرين أن هذه المشاركة ليست فقط واجباً عائلياً، بل رسالة تهدف إلى إبقاء هذا التراث حياً بين الأجيال.
أصالة وإبداع
عن مستقبل حرفة صناعة الدبس، يقول البدواوي: «صناعة الدبس ليست مجرد ذكرى من الماضي، بل جزء من حاضرنا ومستقبلنا، فلا يزال الناس يستخدمون الدبس حتى اليوم في المأكولات الإماراتية التقليدية، وهو منتج محلي يعكس هويتنا الوطنية، مشيراً إلى أن هذه الحرفة ستظل قائمة، طالما بقي هناك من يؤمن بأهميتها ويسعى لنقلها إلى الأجيال، لتظل رمزاً للأصالة والإبداع الإماراتي.