عمري كله ما جئت لآخذ مكان أحد، أعرف مكاني تماماً، وأحفظ قيمة نفسي، كثيراً دُعيت إلى المقاعد الأولى، وكنت أختار المقاعد الخلفية، فيما عدا مقاعد الطائرات بالطبع، الرؤية من المقاعد الخلفية أكثر اتساعاً، ترى الصور والمشاهد بحجمها الطبيعي، لا تحتاج إلى رافعة كي تأخذك إلى أعلى فتتضح الصور، الصورة عن قُرب قد لا تُسعدك لذا اتخذ المكان الأقصى لتكُنِ الرؤية أوضح.
مكانك ليس بالمقعد الذي تعتليه، ولا بالمساحات الفارغة حولك، إنه في داخلك، في إيمانك بك، وبقوتك، وبعلمك، وبتواضعك، وباختصارك لكل المجاملات لتكون أنت الذي تقرأ الكتب والأوراق أمامك حين ينجلي الغَبش، وتكون القاعدة الرئيسة للتعامل هي ما قدّمتَ، وما تركتَ من أثر طيب، لا ذاك المقعد الذي جلست عليه يوماً في الصف الأمامي ثم آل إلى غيرك بعدما تغادره، يعني يمكن أن يُشغل خلال ثوانٍ معدودة.
الإنسان أثر طيّب ليس مكاناً مميزاً، كثيرون حولنا يستشيطون غضباً لأنهم جلسوا في المقاعد البعيدة قليلاً عن الصف الأول، أولئك لو كانوا يؤمنون بقيمة الفعل قبل الشكل لكانت قناعاتهم مختلفة، ورؤاهم واسعة وليست ضيّقة، يعرفون كيف يعيشون المواقف، ويقرؤون دروس الحياة بوعي تام، وبإيمان حقيقي بنتائج الامتحان النهائي.
ساقتني المواقف والأحداث والفعاليات إلى العديد من المقاعد الأمامية، وكنت دوماً أتركها لأذهب للمقعد الخلفي، مُنذ اليفاع وسنين الشباب الأولى، أؤمن بأن الحياة والسعادة الحقيقية خارج لعبة الكراسي، إنها في السلوك، وفي الأخلاق، وفي القيم، لا بأس في أن تشغل المقعد الأول في حفلة فنية، لكن عليك أن تتنبه إلى أن سلوكك وتفاعلك أثناء تلك الحفلة يكشفان من أنت، العبرةُ ليست في التفاعل، وإنما في التغافل عمَا يمكن أن يُشوّه صورتك، وقيمة المقعد الذي جلست عليه.
إن الحياة تضعنا في مواقف كثيرة، علينا أن نقرأها بشكل جيد، وألّا نترك للمواقف أن تُسيّرنا، بل علينا أن نحرص وبشكل جيد خالص على أن نضع البصمة التي ترضينا، بعيداً عن آفات الزمان التي تخدعك بوهم المقعد والقيمة، ذلك أن قيمتك عندك أهم بكثير من وثير المقاعد والوسائط الملونة البهيجة.
لا تستغرب حين تدلفُ إلى المكان وأنت تعرف أن مقعدك فيه محفوظ ومضمون بتلك الورقة الملصقة عليه، غير أن ثمة من ذهب إليها فنزعها ليأخذ مكانك، ستدرك أن ذاك يعتقد أن القيمة في المكان، وأنت تؤمن بأن القيمة في الذات، وفي احترامك لتاريخك الطويل الذي لا يعرفه سارق المقعد.