علي عبد الرحمن (القاهرة)
منذ نشأتها، كانت السينما أكثر من مجرد وسيلة ترفيهية، فهي نافذة على الأحلام والطموحات الإنسانية، وبفضل قوة السرد البصري، تمكنت من تقديم صور لأفكار كانت تبدو مستحيلة.
وفي العقدين الأخيرين اتخذت السينما منحى جديداً مع صعود تقنيات الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي، مما جعل الأفلام قادرة على تقديم تجارب تتجاوز حدود الشاشة التقليدية، وتغمر المشاهدين في عوالم تفوق الخيال مع الثورة التكنولوجية.
ولم يعد الفيلم مجرد قصة، بل تجربة متكاملة تتفاعل مع الجمهور وتدفعه إلى إعادة التفكير في الحكم على أمور عدة.
تشكيل السرد
الذكاء الاصطناعي أكثر من مجرد أداة للتطوير التقني، ويشكل ركيزة أساسية في إعادة بناء السرد السينمائي، بفضل قدرته على معالجة البيانات وتحليلها بطرق غير مسبوقة.
وأحد الأمثلة البارزة على ذلك فيلم «إكس ماكينا» 2015، للمخرج أليكس جارلاند، الذي لم يكتف بطرح أسئلة تقليدية حول المستقبل والتكنولوجيا، وقدم دراسة فلسفية عميقة حول وعي الآلات والحدود الفاصلة بين الإنسان والآلة.
في هذا الفيلم، تلعب الممثلة السويدية أليسيا فيكاندر دور الروبوت «أفا»، كيان ذكي اصطناعي يُختار لمعرفة مدى قدرته على محاكاة المشاعر الإنسانية. والهدف من الفيلم الإجابة عن تساؤلات وجودية حول الوعي والذات، والقدرة على التمييز بين الآلة والإنسان.
محاكاة
يتميز «إكس ماكينا»، بأنه لا يستخدم الذكاء الاصطناعي كأداة تقنية داخل القصة فقط، بل يجعله جزءاً من بنية السرد، فالأنظمة الذكية التي تتحكم في تعبيرات الشخصية «أفا» تجعل من المستحيل تجاهل الصراع الذي تعيشه الآلة، ما يجعل المشاهدين يتساءلون عن حقيقة الوعي والإرادة.
ويعتبر المخرج أليكس جارلاند أن فيلمه تجربة في فهم العلاقات الإنسانية والآلات، والتحدي في القدرة على التفاعل عاطفياً مع «أفا».
تفاعل حسي
بينما يتعمق الذكاء الاصطناعي في فهم الطبيعة البشرية، يذهب الواقع الافتراضي إلى ما هو أبعد عبر تقديم تجربة حسية تتجاوز حدود الشاشة، ويمكن للواقع الافتراضي أن يجعل المشاهد مشاركاً في القصة وليس مجرد متلق.
ويعد فيلم «لاعب جاهز رقم واحد» 2018 للمخرج ستيفن سبيلبرغ، نموذجاً لهذا النوع من التفاعل السينمائي.
سرديات جديدة
عندما يدمج الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي في تجربة سينمائية واحدة، نحصل على أفلام تعيد تعريف مفاهيم الزمان والمكان والسرد التقليدي، وفيلم «ماتريكس» 1999 للمخرجين الأخوين واتشوسكي، نقطة تحول في هذا الاتجاه.
ويمثل الفيلم استعارة عميقة حول تأثير التكنولوجيا على الوعي البشري، وقدم رؤية جريئة حول الواقع الافتراضي كأداة للتحكم في إدراك الإنسان للعالم، واستغل تقنيات متقدمة لتقديم مشاهد حركة بطيئة، ما يمنح المشاهدين شعوراً بأنهم يعيشون داخل عالم افتراضي قابل للتعديل.
تغيير قواعد اللعبة
تقنيات الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي لا تعيد تشكيل كيفية صناعة الأفلام فحسب، بل تحدث تحولات جذرية في مفهوم السينما التقليدية، مثل فيلم «بليد رانر 2049» 2017، الذي قدم رؤية مستقبلية للواقع باستخدام تقنيات متقدمة في المؤثرات البصرية والذكاء الاصطناعي، في اتجاه لتغيير قواعد اللعبة.
وأوضح روجر ديكنز، مدير التصوير في الفيلم، أن الذكاء الاصطناعي سمح باستكشاف عوالم جديدة لا يمكن الوصول إليها بالطرق التقليدية.
سينما عربية
بالرغم من أن السينما العربية لا تزال في مراحلها الأولى في تبني هذه التقنيات، ثمة محاولات تجريبية بدأت في الظهور، بينها فيلم «الخلية» 2017 الذي أخرجه طارق العريان بتقنيات بصرية متقدمة.
ويرى العريان أن الذكاء الاصطناعي هو المفتاح لمستقبل السينما العربية، حيث تفتح التكنولوجيا آفاقاً غير مسبوقة وتتيح إنتاج أفلام بجودة عالية وبتكاليف مادية مقبولة، ويكمن التحدي الأكبر لصانع المحتوى العربي في دمج التكنولوجيا مع سرد القصص التقليدي بحيث يظل الجمهور متصلاً بجوهر القصص الإنسانية.
ويشير المنتج كريم أبو ذكري، إلى أن معوقات استخدام الذكاء الاصطناعي في السينما العربية تشمل التكلفة المادية، نقص البنية التحتية، التحديات الثقافية والاجتماعية والفنية، تكاليف البرمجيات، والأجهزة عالية الأداء، وتوظيف المتخصصين. كما تفتقر الاستوديوهات والمرافق إلى المعدات المتطورة اللازمة لتنفيذ مشاريع سينمائية متقدمة تتطلب دمج الذكاء الاصطناعي بشكل كامل، بالإضافة إلى نقص الأكاديميات المتخصصة.
تحديات ومعوقات
يقول الباحث السينمائي مصطفى الكيلاني: إنه بالرغم من الإمكانيات الهائلة التي توفرها تقنيات الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي، هناك تحديات اقتصادية كبيرة على صناع الأفلام، ويتطلب الأمر ميزانيات ضخمة وأدوات إنتاج معقدة قد لا تكون متاحة لكل المخرجين.
تجربة غامرة
أحد أكبر التحديات في صناعة الأفلام باستخدام تقنية الواقع الافتراضي هو إيجاد تجربة غامرة تجذب الجمهور إلى عالم الفيلم، حيث وصف، يانوش كامينسكي مدير تصوير فيلم «لاعب جاهز رقم واحد»، بأنه محاولة لدمج العالمين الافتراضي والحقيقي بسلاسة، مما يمنح المشاهدين تجربة تتجاوز التفاعل البصري إلى التفاعل الحسي، وتصبح القصة أكثر من مجرد سرد بصري، بل تجربة يتعايش معها المشاهد.
نوافذ جديدة
أوضح الناقد الفني أحمد سعد الدين، أن الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي لا يعيدان فقط تشكيل طريقة صناعة الأفلام، بل يفتحان نوافذ وأبواباً جديدة لتجربة السينما بشكل غير مسبوق، ومع تطور هذه التقنيات، تبقى التساؤل حول ما إذا كانت السينما ستتخلى عن بعض عناصرها التقليدية لصالح التجارب التفاعلية والابتكارات التكنولوجية.
وقال: ربما ستظل السينما تتأرجح بين الجوانب التقنية والإنسانية، حيث تُدمج التكنولوجيا لتعزيز قوة السرد والتأثير العاطفي، وينبغي أن يبقى التفاعل بين العالم المرئي ومشاعر الجمهور كجزء لا يتجزأ من أي تقدم تكنولوجي.