علي عبد الرحمن (القاهرة)
مهرجان البندقية السينمائي، أحد أعرق المهرجانات في العالم، حيث يعد ساحة فنية تتلاقى فيها الفلسفة مع السينما، ومنصة لتسليط الضوء على الأفلام التي تعكس حدود الإبداع، ومنذ تأسيسه عام 1932، ما زال له تأثير كبير على السينما العالمية، ويتمثل التأثير الأعمق في رؤى وفلسفات رؤساء لجان التحكيم حول مسار المهرجان واختياراته، وكيف تؤثر على الأفلام، مع ربط الفلسفات بالأسس السينمائية التي تجسدها الأعمال الفائزة.
جماليات التاريخ
ترأس المخرج الإيطالي لوشينو فيسكونتي لجنة التحكيم في مهرجان البندقية في عام 1971، وهو معروف بدمج الجماليات التاريخية في أفلامه، ويعد فيلم «الفهد» 1963، واحداً من أبرز أعماله، حيث يعكس فلسفته التاريخية والفنية، وهو من بطولة بيرت لانكستر، آلان ديلون، وكلوديا كاردينالي، ويجسد التغيرات الاجتماعية والسياسية في إيطاليا خلال القرن التاسع عشر.
وخلال رئاسته، اختير فيلم «جوني حصل على بندقيته» للمخرج دالتون ترومبو للفوز بجائزة الأسد الذهبي، ويتناول قضايا الحرب والموت، وعكس فلسفة فيسكونتي حول الجماليات البصرية والموضوعات التاريخية، واعتمد الفيلم بشكل كبير على أسلوب السرد النفسي الذي يتناول تأثيرات الحرب على النفس البشرية، مما يترجم الفلسفة العميقة حول علاقة السينما بالتاريخ.
الواقعية والشعرية
عام 1973، ترأس المخرج الفرنسي مارسيل كارنيه لجنة التحكيم، وكان معروفاً بقدرته على مزج الواقعية مع الشعرية، كما يتجلى في فيلمه «أطفال الجنة» 1945، الذي يعكس تعقيدات العلاقات الإنسانية ضمن سياق اجتماعي متغير، محققاً توازناً بين الواقعية القاسية واللمسة الشعرية.
وخلال فترة رئاسته، فاز فيلم «الوليمة الكبيرة» لماركو فيريري بجائزة الأسد الذهبي، حيث يقدم نقداً اجتماعياً معقداً ومشحوناً بالشعرية حول الانغماس في ملذات الحياة، مما يتناغم مع فلسفة كارنيه التي تدمج الواقعية والرمزية لتعميق فهم التفاعل بين الفرد والمجتمع، وجاء اختيار فيريري نتيجة لفهم هذا التزاوج بين عناصر المجتمع والمجال الشخصي.
السرد المفكك
المخرج الفرنسي جان لوك جودار، الذي ترأس لجنة التحكيم في عام 1980، كان رائداً في حركة الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، والتي جلبت أساليب سرد غير تقليدية، وقدمها خلال فيلمه «عند النفس الأخير» 1960، وكان بمثابة ثورة في السرد السينمائي، حيث فكك قواعد السرد التقليدي وقدم تجربة سينمائية تجريبية.
وتحت رئاسة جودار، فاز فيلم «مدينة الأطلسي» للمخرج لويس مال بجائزة الأسد الذهبي، الذي يتبنى أسلوب السرد غير التقليدي ويتجول بين الواقعية والبناء السردي المفكك، والفيلم يبرز التجريبية كعنصر رئيس في استكشاف الفرد في ظل المجتمع، مما يتماشى مع فلسفة جودار التي تعيد تعريف السرد السينمائي عبر الابتكار والتمرد على القواعد التقليدية.
السياسة والهوية
ترأس المخرج الإيطالي بيرناردو برتولوتشي، لجنة التحكيم في عام 1983، وهو معروف بتناول الأفكار الفلسفية حول السلطة والسياسة، ومن خلال فيلمه «الإمبراطور الأخير» 1987، عكس فلسفته عبر استكشاف التحولات السياسية والهوية.
وخلال رئاسته فاز فيلم «الاسم الأول: كارمن»، لجان لوك جودار بجائزة الأسد الذهبي، وهو عمل تتداخل فيه الرومانسية مع السياسية، ويبرز التحولات الاجتماعية والثقافية بأسلوب سردي غير تقليدي، هذا الاختيار يعكس فلسفة برتولوتشي حول العلاقة بين السلطة والهوية، حيث التعامل مع التغيرات السياسية والاجتماعية من خلال تعبيرات سينمائية، تعمق فهم التفاعل بين الأفراد والسلطة.
التجريب الملحمي
أما المخرج الإيطالي سيرجيو ليوني، الذي ترأس لجنة التحكيم في عام 1990، والمعروف بتطويره لأفلام الغرب الأميركي، فيعد فيلمه «حدث ذات مرة في الغرب» 1968، مثالاً حياً لقدرته على تقديم سرد ملحمي بأبعاد تجريبية، وهو من بطولة هنري فوندا وكلوديا كاردينالي.
وخلال رئاسته، فاز فيلم «كلوز - أب» للمخرج الإيراني عباس كياروستامي بجائزة الأسد الفضي، وتميز الفيلم بقدرته على التنقل بين الوثائقي والروائي، وعكس رؤية ليوني حول السرد غير التقليدي والملحمي، وحملت تجربة كياروستامي السينمائية تساؤلات فلسفية حول الواقع والتمثيل، مما يجعل اختياره ملائماً لفلسفة ليوني السينمائية.
الفن التصويري
تجمع أعمال المخرج والفنان الأميركي جوليان شنابل، الذي ترأس لجنة التحكيم في عام 2007، بين الفن التشكيلي والسينما، وعبر عنه فيلمه الشهير «الغوص والفراشة» 2007، بطولة ماثيو أمالريك، وقدم فلسفة تجسيد الذات والهوية الفردية.
وخلال رئاسته، فاز فيلم «شهوة، حذر» للمخرج آنج لي بجائزة الأسد الذهبي، وعكس تجربة سينمائية مليئة بالتشويق العاطفي والتجسيد الذاتي، وترجم فلسفة شنابل حول تجسيد الفن في السينما.
السرد المعكوس
عام 2010، ترأس المخرج الأميركي كوينتين تارانتينو لجنة التحكيم، وهو معروف بأسلوبه السردي غير التقليدي واستخدامه للتشويق الزمني، وعبر عن ذلك في أهم أفلامه «خيال رخيص» 1994، بطولة جون ترافولتا وصامويل إل. جاكسون، ويبرز فلسفة تارانتينو في كسر التسلسل الزمني التقليدي للسرد.
وخلال رئاسته، فاز فيلم «مكان ما» إخراج صوفيا كوبولا بجائزة الأسد الذهبي، واعتمد الفيلم على سرد بطيء لإبراز عزلة الشخصية الرئيسة، مما يعكس تأملاً فلسفياً حول الشهرة والهوية.
النفسية والأنوثة
الممثلة الفرنسية الشهيرة إيزابيل أوبير، ترأست لجنة التحكيم في العام 2017، وكانت معروفة بتجسيدها الأبعاد النفسية المعقدة للشخصيات الأنثوية، وأشهر أفلامها «هي» 2016، إخراج بول فيرهويفن، ويعكس الصراعات النفسية للمرأة. تحت رئاستها، فاز فيلم «شكل الماء» لغييرمو ديل تورو بجائزة الأسد الذهبي، وعكس رؤية فلسفية حول الحب والتهميش.
الواقعية السحرية
المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون، الذي ترأس لجنة التحكيم في العام 2019، كان معروفاً بتناول الهوية الفردية والطبقية بأسلوب يمزج بين الواقعية والخيال، وعبر عن رؤيته الفلسفية من خلال فيلمه «روما» 2018، الذي فاز بعدة جوائز عالمية، وتمثل فلسفته في استكشاف العلاقة بين الهوية والذاكرة.
وخلال فترة رئاسته، فاز فيلم «الجوكر» لتود فيليبس بجائزة الأسد الذهبي، حيث يتناول رحلة نفسية معقدة لشخصية مدمرة نفسياً، ويعكس الفيلم التطور الفلسفي للعزلة والعدمية.
الصراع الوجودي
المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو، الذي ترأس لجنة التحكيم في العام 2022، كان معروفا بأعماله التي تعكس الصراع الوجودي والنفسي، مثل فيلم «بيردمان» 2014، الذي يستكشف أزمة الهوية والوجود عبر السرد المتقن. وخلال رئاسته، فاز فيلم «كل الجمال والدم المسفوك» لورا بويتراس بجائزة الأسد الذهبي، الذي يتناول رحلة فلسفية عميقة حول الوجود والتهميش.
فلسفة الاختيار
يرى الممثل أحمد وفيق، أن ما يميز مهرجان البندقية، قدرة رؤساء لجنة التحكيم على قيادة الاختيارات السينمائية بناءً على فلسفاتهم الخاصة، وكل رئيس للجنة التحكيم يجلب رؤية فريدة للفن السينمائي، تؤثر بشكل مباشر على الأفلام التي تفوز بجوائز الأسد الذهبي من خلال فلسفاتها السردية، سواء كانت تجريبية أو تاريخية أو عاطفية. ونرى انعكاساً لتلك الفلسفات في الأفلام المختارة، حيث تؤثر الرؤى الفنية على تطور السينما العالمية وتحديد الاتجاهات الجديدة في “الفن السابع”.
وأشار وفيق إلى إمكانية ملاحظة تأثير فلسفات رؤساء لجنة التحكيم بشكل واضح في الأفلام الفائزة، حيث تعكس الأعمال توجهات فنية جديدة واستكشافات فلسفية متجددة، ما يعزز من قدرة مهرجان البندقية على تقديم أعمال سينمائية متفردة ومبتكرة.