عندما تطأ قدمي أرض مدينة قرطبة، أشعر وكأنني انتقلت بآلة زمن إلى عصور مضت، حيث كانت هذه المدينة مركزاً للحضارة الإسلامية في الأندلس، مُشعّة بالعلم والثقافة والفنون، تستقبلني المدينة بأحضانها الحجرية، كل زاوية فيها تروي حكاية، وكل حجر يحمل سراً من أسرار التاريخ.
تبدأ رحلتي في الحي القديم بقرطبة، حيث الشوارع الضيقة والمنازل المصطفة بإتقان، وأجد نفسي أمام جامع قرطبة العظيم، الذي تحول الآن إلى كاتدرائية، يستقبلني بقوامه الشامخ وأقواسه المتعاقبة التي تحمل بصمات الفن الإسلامي، أتجول بين أروقته متأملاً كيف كان هذا المكان مهداً للعلماء والمفكرين، يتبادلون الأفكار والمعرفة. لكن الحزن يخيم على قلبي وأنا أرى كيف تم تغيير معالمه، حيث تحولت منارته وأجزاء كبيرة منه إلى كنيسة، فكأن التاريخ ينوح على فقدان جزء من هويته.
أتابع خطواتي إلى الجسر الروماني الذي يعبر نهر الوادي الكبير، وقد شهد هو الآخر تحولات عبر العصور، لكنه لا يزال شامخاً يخبرنا عن عظمة ما مر عليه من حضارات، ومن هناك، أتوجه إلى مدينة الزهراء، ذلك المعلم البديع الذي كان يفيض بالجمال والفخامة في عهد الخلفاء، تخاطبني أطلالها بلغة الحزن على ما كان لها من بهاء وما آلت إليه الآن من خراب.
في كل خطوة برحلتي بين آثار قرطبة الإسلامية، أشعر بالحزن يتملكني لرؤية ما آلت إليه هذه الآثار من تغيير وتحويل، ولكن في الوقت نفسه، يغمرني شعور بالفخر والإعجاب بما أنجزه المسلمون في هذه المدينة، فقد كانت قرطبة، في عصرها الذهبي، مركزاً للنور يضيء العالم بعلومه وفنونه وثقافته.
أرد على هذه الآثار بقلبي، مؤكداً لها أن تاريخها وما قدمته للإنسانية لن يُنسى، تاريخ قرطبة الإسلامي هو جزء لا يتجزأ من تراثنا الإنساني، يعلمنا كيف يمكن للحضارات أن تزدهر بالعلم والتسامح والجمال، وعلى الرغم من مرور القرون وتبدل الأحوال، تبقى الروح الإسلامية في قرطبة حية، تنبض في كل زاوية وتحت كل حجر.
بينما أسير في أزقة قرطبة العتيقة، يصل صدى أذان ماضٍ عريق إلى أذني، كأنه يعانق نسمات الهواء ويعيد رواية قصة هذه المدينة العريقة، أشعر بروح الأجداد تحيط بي، تخبرني بأن الأرض التي أمشي عليها كانت شاهدة على عصر كان فيه الإبداع والمعرفة والفنون جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية.
وعند زيارتي للأحياء التي كانت تضج بحياة المسلمين، أجد الصناعات التقليدية لا تزال تنبض بالحياة، من نقش الخشب إلى صناعة الجلود، تلك الحرف التي ازدهرت في الأندلس وتحمل بين طياتها تراثاً عريقاً، لأشعر بالفخر لأن هذه الحرف لا تزال شاهدة على عظمة ما أنجزه الأجداد.
مع انتهاء يومي في قرطبة، أشعر بمزيج من الحزن لما فقدته هذه المدينة من هويتها الإسلامية، والفخر بما أنجزه المسلمون في هذه البقعة من الأرض، إن قرطبة، بآثارها وحكاياتها، تذكرنا بأهمية الحفاظ على التراث الإنساني وتقديره، وأدرك أنه بغض النظر عن التحولات التي قد تطرأ على المدن والحضارات، فإن الإرث الذي نتركه وراءنا يظل شاهداً على ما كنا عليه، ويمكن أن يلهم الأجيال القادمة لبناء عالم أفضل.