السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

صحيفة كبرى تعترف بتاريخها الأليم

صحيفة كبرى تعترف بتاريخها الأليم
1 ابريل 2023 02:59

لندن (الاتحاد)

في خطوة بالغة الشجاعة، كشفت صحيفة الجارديان البريطانية بشفافية تامة ما توصل إليه مشروع صحفي ضخم، أطلقته قبل عامين فيما يشبه رحلة تطهيرية، للتخلص من آثام الماضي. ففي عام 2020، بدأ باحثون بارزون من جامعتي «نوتنجهام» و«هال» دراسة مستقلة موسعة بتكليف مباشر من مؤسسة «سكوت ترست»، مالكة الجارديان، للبحث بشأن علاقات مؤسسي الجريدة في القرن 19 بتجارة العبيد واستغلالهم عبر المحيط الأطلسي.. ولم تتردد الصحيفة في إعلان النتائج بشفافية تامة على الرغم من أنها تفضح الجانب المظلم من حياة الصحفي جون إدوارد تايلور، الذي أسس مانشستر جارديان عام 1821.

اعتذرت الجارديان أيضاً، وأعلنت «سكوت ترست»، عن برنامج للعدالة التصالحية بعد اكتشاف حقيقة الروابط بين مؤسسي الصحيفة والعبودية. بدأت قصة التنقيب في ملفات الماضي مع صعود حركة الاحتجاج الأميركية الواسعة ضد الممارسات العنصرية بحق السود. وفي مقالاتها وتقاريرها، أبدت الجارديان -ليبرالية النزعة- تعاطفها مع حركة «حياة السود مهمة» التي مثلت العنوان الأكبر للجماعات المدافعة عن السود بعد حادث مقتل المواطن الأميركي من أصل أفريقي جورج فلويد في مايو 2020. أخذ القائمون على البحث الأكاديمي وعنوانه «تراث الاستعباد» يفتشون في الملفات بل والدفاتر والفواتير والمعاملات التجارية القديمة لـ جون إدوارد تايلور الصحفي وتاجر القطن عبر المحيط الأطلسي، كما نقبوا في كل ما يتعلق بالأنشطة التجارية لـ11 شخصاً ساهموا في تمويل إصدار الصحيفة.
تقول الجارديان إن الدراسة كشفت أن تايلور كان له صلات حقيقية بالعبودية من خلال شراكات في تصنيع القطن والشركات التجارية التي تستورد القطن الخام الذي يزرعه العبيد في الأميركتين.
وبعد مراجعة للدفاتر والفواتير تبين أن شركته، Shuttleworth، Taylor & Co، قد تلقت القطن من جزر ساحلية ومناطق في ساوث كارولينا وجورجيا، وظهرت في الفواتير بوضوح الأحرف الأولى وأسماء أصحاب المزارع والمستعبدين. لم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد تبين أيضا أن تسعة من الرجال الـ11 الذين أقرضوا تايلور المال لتأسيس «مانشستر الجارديان» لديهم روابط مماثلة مع مزارع الرقيق الأميركية التي كانت تصدر القطن لمانشستر.
وتعترف الجارديان في تقرير نشرت قبل أيام ضمن مشروعها الفريد: «كان أحد هؤلاء الرجال، السير جورج فيليبس، مستعبدا للناس كمالك مشارك لمزرعة سكر في جامايكا. وفي 1835، حاول فيليبس دون جدوى المطالبة بتعويض من الحكومة البريطانية عن فقدان «ممتلكاته» البشرية. ومع ذلك، كانت مطالبة شريكه التجاري بـ108 أشخاص مستعبدين في المزرعة ناجحة».
وركزت المرحلة الثالثة من البحث جزئيا على التحقيق في الروابط مع مزارع في جنوب شرق الولايات المتحدة وجامايكا، وحددت بعض المستعبدين المرتبطين بمؤسسي الجارديان.
وتمكن الباحثون من العثور على سجلات من عام 1862 بأسماء الأشخاص المستعبدين في مزرعة جزر البحر التي باعت القطن لشركة تايلور. ومن بينهم توبي البالغ من العمر 90 عاما وكلاريندا البالغ من العمر 50 عاما وبيلي البالغ من العمر 36 عاما ونانسي البالغة من العمر سبع سنوات، الذين تم استعبادهم في مزرعة ويلز الإسبانية في جزيرة هيلتون هيد.
وكشفت سجلات مزرعة في جامايكا، مملوكة جزئيا لجورج فيليبس، عن معلومات أكثر قليلا عن الأفارقة المستعبدين، بما في ذلك تفاصيل حول حياة أحد مقاتلي المقاومة. وكان جرانفيل، الذي تم استعباده في تلك المزرعة، مقاتلا من أجل الحرية تعرض للاضطهاد لتورطه في الحرب المعمدانية في جامايكا من عام 1831 إلى عام 1832. كان واحدا من 60000 جامايكي مستعبد شاركوا في الانتفاضة.
وتعتبر الانتفاضة، المعروفة أيضا باسم تمرد عيد الميلاد، أكبر تمرد للعبيد في جزر الهند الغربية ولعبت دورا مهما في إلغاء العبودية البريطانية، بحسب الجارديان.

التحيز التطهري.. انتقائية الاعتذار
على الرغم من أهمية مشروع الجادريان وتفرده من حيث مبادرتها للاعتراف بماض مشين، كان من الممكن -بحسب بعضهم- أن تتجاهله، لأن أحداً لن يجعلها أبداً تدفع فواتير مؤسسها عن استغلال العبيد قبل أكثر من 200 عام، إلا أن هذه النزعة التطهرية، تعكس بعضاً من مشكلة النخبة الليبرالية بالغرب في تعاطيها مع كل ما هو خارج محيطها الجغرافي عندما يتعلق الأمر بتسديد الفواتير القديمة للمحافظين. فهي عندما تحاول أن تتخلص من أثقال الماضي، تبقى -للأسف- ضمن تحيزاتها القديمة، في تناقض غريب مع نواياها الحسنة التي تبقى محصورة في نطاق ضيق لا يتعامل بنفس القدر من المساواة والنزاهة مع كل من وقع ضحية لاندفاعة الغرب عبر العالم على مدى القرون الثلاثة الأخيرة .. تتعامى هذه النخبة وتتجاهل -بقصد أو بجهل- كل تلك المآسي المروعة التي تسببت فيها القوى الاستعمارية لشعوب العالم في التاريخ الحديث.. وتكتفي فقط -تحت ضغط القوى الصاعدة من قلب «حركة حياة السود مهمة»- بنبش تاريخها مع العبودية، ولا تحاول أن تتجاوز ذلك بإلقاء نظرة شاملة على المعاناة البشرية الجسيمة التي تكبدها الملايين خلال موجات احتلال حاول البعض تصويرها وكأنها منحة غربية لنشر نور الحضارة والخير في العالم المتخلف بآسيا وأفريقيا. من هذه الزاوية، تبدو مبادرة الجارديان، وكأنها استكمالاً، للمشروع الضخم الذي نفذته نيويورك تايمز قبل عامين بعنوان «1619»، ونالت عنه جائزة بوليتزر للتميز الصحفي. فالصحيفة الأميركية استهدفت بسلسلة المقالات والدراسات والتقارير الموسعة والمعمقة التي نشرتها عن معاناة ومساهمات العبيد في التاريخ التأسيسي للمجتمع الأميركي، فضح عمليات الاستغلال التي مارسها البيض منذ وصول أول مجموعة من الرقيق للشواطئ الأميركية عام 1619. انطلق هذا المشروع أيضاً بإلهام من «حياة السود مهمة».. لكن كل من الحملتين الصحفيتين تؤكدان بصورة ما أن النخبة الإعلامية الغربية حتى في نسختها اليسارية التطهرية، مازالت تعاني من متلازمة التمركز الغربي حول الذات، حتى عندما تتحلى بالشجاعة اللازمة للنظر بغضب إلى الوراء لتفحص المخلفات الكارثية للماضي الأليم. إنها تختار بعض الجروح فقط لمحاولة تطهيرها بطريقة انتقائية جداً في ضوء معطيات وضغوط الحاضر.. والضحايا عندهم ليسوا سواء.. فبعضهم يستحق الاعتذار وإبداء الندم وطلب الصفح والغفران.. أما الباقون، في الهند مثلاً أو الشرق الأوسط أو آسيا، فلهم مرارة الحصرم وغبار النسيان.

الجارديان.. من مناصرة تجارة الرقيق للتعاطف مع آلامهم
على مدى سنوات طويلة، ظل شبح الماضي يؤرق ضمير صحيفة الجارديان. فالصحيفة التي يقرؤها أنصار اليسار والتي تعتبر معقل الليبرالية وصوتها الصادح في برية الميديا البريطانية تعتبر نفسها على الدوام منصة تقدمية في مواجهة المحافظين.. لم يكن يشعرها بوخز الضمير تاريخ وتعاملات مؤسسها فقط.. بل توجهاتها هي نفسها في سنوات البدايات الأولى. فقد كانت تمثل المحافظين بجدارة بانحيازها عام 1844 لمعسكر الجنوب المدافع عن العبودية في الحرب الأهلية الأميركية.
لذلك، شعرت الصحيفة مع انطلاق حركة «حياة السود مهمة» أن لحظة الانعتاق قد حانت، وأنه لابد من سداد الدين المعنوي الثقيل لأحفاد أولئك الذين دافعت عن اضطهادهم واستغلالهم. كان تقريبا هذا حال بريطانيا كلها في صيف 2020، فالإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، لم يفارقها أبداً تاريخها الاستعماري الذي كان العبيد أبرز ضحاياه. لذلك، تفجرت موجة احتجاجات كبرى ضد كل من كان له صلة بتجارة الرقيق واستغلالهم وصارت تماثيل شخصيات لها تاريخها الاستعماري المشين هدفاً للمحتجين، الذين أسقطوا بالضربة القاضية تمثال تاجر الرقيق إدوارد كولستون في مدينة بريستول.
عندها تقدمت الجارديان الصفوف، وأخذت تطالب الجميع بتمحيص تاريخهم القديم.
وقال رئيس «سكوت ترست»، أليكس جراهام، إنه منذ سقوط تمثال كولستون، فحصت صحيفتا الجارديان وشقيقتها الأوبزرفر تاريخ العديد من المنظمات ودعتهما إلى المساءلة عن صلاتهما بالعبودية وغيرها من المظالم السابقة. وأضاف: «من الصواب، لذلك، أن ننظر إلى أنفسنا أيضا»، حسبما جاء في رسالة بالبريد الإلكتروني وجهها للعاملين بالمؤسسة في يوليو 2020.
في هذه اللحظة بدأت رحلة الجارديان للتطهر من آثام الماضي، عندما أعلن جراهام أن المؤسسة المالكة «سكوت ترست»، كلفت باحثين مستقلين، للنظر في أي روابط تاريخية قد تكون للصحيفة بتجارة الرقيق.
أكد جراهام في رسالته تلك: «لم نر أي دليل على أن تايلور كان مالكا للعبيد، ولم يشارك بأي طريقة مباشرة في تجارة الرقيق»، ثم أضاف: «ولكن إذا كانت مثل هذه الأدلة موجودة، فإننا نريد أن نكون منفتحين بشأنها. على أي حال، يجب أن نعترف بأنه كتجار للقطن والمنسوجات، فإن بعض الشركات العائلية لتايلور ومموليه كانت ستتاجر بالتأكيد مع مزارع القطن التي تستخدم العمالة المستعبدة».
وتقول الجادريان إن تايلور كان ابناً لتاجر قطن، كما عمل أولئك الذين ساهموا في تمويل الصحيفة الجديدة في تجارة المنسوجات والقطن بمانشستر، التي كانت آنذاك مركز صناعة القطن والمعروفة باسم كوتونوبوليس.
وقد أبدى جراهام أسفه لأنه في العقود التي تلت وفاة تايلور عام 1844، «لم تلتزم (مانشستر جارديان) دائما بالمثل والقيم التقدمية - انحازت الصحيفة إلى الجنوب الذي يمتلك العبيد في الحرب الأهلية الأميركية».
وفي عام 1872 قاد ابن شقيق تايلور سي بي سكوت، الذي يعتبر أحد أعظم محرري الصحف، العهد الجديد للجارديان باعتبارها منبراً لليبرالية.
وبعد وفاته في عام 1936، أنشأت عائلة سي بي سكوت ترست، التي لا تزال تشرف على الجارديان والأوبزرفر، على عكس الغالبية العظمى من المؤسسات الإعلامية البريطانية، المملوكة إما من قبل المساهمين أو المليارديرات.
وأضاف غراهام: «يجب على جميع المنظمات فهم ومناقشة تاريخها، ويتعين على المؤسسات الإعلامية بشكل خاص القيام بذلك، والتفكير في مواقفها السابقة والحالية بانفتاح، وتسليط الضوء على الأخطاء، ومواجهة المستقبل بتواضع».
وتابع : «سنبذل قصارى جهدنا لمحاسبة أنفسنا، تماما كما نفعل مع الآخرين، وسيتم مشاركة العمل مع الموظفين وقرائنا، بمجرد اكتماله. ومن واجبنا جميعا أن نفحص تاريخنا، وأن نفهم المظالم التي أضرت بالبعض وأفادت البعض الآخر - ثم نتصرف، في الوقت الحاضر، بطرق تشجع بنشاط التقدم، لا تعيقه». وبالفعل أوفى غراهام بوعده، بكشف نتائج البحث  كاملة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©