خولة علي (دبي)
نقف على عتبة سوق دبي الكبير الذي ما زال يحظى بشعبية واسعة من الداخل والخارج. هذا السوق مترامي الأطراف، والمزدحم بالمارة والمتسوقين من جنسيات مختلفة، كان مقصداً مهماً منذ نشأته عام 1822 وحتى اللحظة. وبعد ترميمه وإعادته إلى مظهره المعماري التراثي القديم، يدعونا إلى استذكار ماضي الأجداد، والسير بين ثناياه للتعرف على تاريخه ودوره التجاري والثقافي والاجتماعي.
نشأة السوق
يعود الباحث راشد بن هاشم بذاكرته إلى ملامح تطور «السوق الكبير» الذي كان مقصداً للأهالي قديماً، موضحاً أن «السوق الكبير» بديرة وبر دبي يقع على خور دبي الذي يُعد مرسىً للسفن التجارية التي كانت تحتمي به من تقلبات الطقس. وقد عاش أهالي المنطقة في الماضي على حرفة الصيد وتجارة اللؤلؤ، إضافة إلى جلب البضائع أو تصديرها. وأدى التزايد في الحركة والتعاملات التجارية إلى إنشاء أسواق تقوم بهذه المهمة، ففي عام 1850 تم إنشاء السوق الكبير في ديرة، وتميز بتنوع منتجاته وأسواقه، ومن أهمها سوق الذهب، سوق التوابل والبهارات، سوق التمور، سوق العطارين والأعشاب الطبية، سوق الحبال والدعون، وسوق المعدن. وكانت تباع فيه الأدوات المنزلية المصنوعة من المعدن والنحاس، وسوق المطارح الخاص بالمفروشات المنزلية مثل المراتب والمتكآت والمخدات القطنية، وأيضاً سوق السمك والخضراوات، وسوق البشوت والعباءات الرجالية، وسوق المناظر لبيع الأكسسوارات النسائية. وقد أُطلق عليها «المناظر» نظراً لوجود دواليب زجاجية مخصصة لعرض هذه البضائع.
ويتابع بن هاشم حديثه، قائلاً: «يندرج تحت (السوق الكبير)، سوق الشالات الرجالية، وسوق المواد الاستهلاكية. وهناك أسواق سمِّيت بأسماء أصحابها، مثل سوق بندر طالب، سوق مرشد، سوق السبخة، سوق نايف، ووسط هذه الأسواق كلها كانت هناك ساحة تسمى بـ(العرصة) لتجتمع فيها قوافل التجار المحملين ببضائع مختلفة والقادمين من مناطق بعيدة، مثل العين وأبوظبي والشارقة والمناطق الشرقية».
تجاري وثقافي
ويشير إلى أن حركة التجارة كانت نشيطة من البحر عن طريق السفن التي كانت تجلب البضائع من البصرة والهند وشرقي أفريقيا والدول المطلة على الخليج العربي، ما ساهم في تنوع البضائع وزخم وثراء السوق. وهناك بضائع كانت تأتي من مناطق مختلفة كانت تشتهر بزراعة الفواكه والخضراوات والتمور والدبس ومنتجات الخوص لبيعها في «السوق الكبير» أو تصديرها إلى الخارج عن طريق السفن التجارية الراسية في الخور. وكان السوق يضم بعض الكتاتيب، فيها أشخاص يتولون مهمة كتابة الرسائل لمن لا يقرأ ولا يكتب، ثم يتم إرسالها إلى البريد، ليسهم السوق في ثراء ثقافي بين مرتاديه.
وصف معماري
ويوضح بن هاشم تفاصيل «السوق الكبير»، والذي يسير على إيقاع نمط الأسواق الشعبية في كثير من البلدان، بدكاكينه الصغيرة المتراصة، وبتخزين البضائع، وممارسة التعاملات التجارية البسيطة. وقد شُيدت الأسواق القديمة من مواد البيئة المحلية السائدة، أهمها الجص والأحجار المرجانية المستخدمة في تأسيس قواعد وجدران الدكاكين، فيما كان يُستخدم خشب الجندل الذي يتم جلبه من شرقي أفريقيا، لشد الأسقف. وكانت الدكاكين تزدان بالمربعات الخشبية المستوردة من الهند، موضحاً أن الأسواق القديمة كانت تتميز بوجود «البارجيل» كعنصر جمالي ووظيفي، وكانت مطعمة بالنقوش والزخارف الجصية، وكانت الجدران مجوفة من الداخل لتمنح المكان طابعاً جمالياً، أما المحال فكانت متراصة ومتلاحمة في صفوف متسلسلة ضمن رؤية بصرية جمالية، وكانت أبراج الهواء التقليدية تعلو بعض الدكاكين لتوفير المناخ اللطيف للمتسوقين. وبذلك كان «السوق الكبير» يُعد من أقدم وأهم الأسواق الممتدة على الخور كشريان يغذي مدينة دبي.
شخصية المكان
تشكل الأبواب الكبيرة المصنوعة من خشب الصاج جانباً من شخصية المكان، وأغلب الدكاكين كانت ذات طابق واحد. أما ممرات الطريق في «السوق الكبير»، فكانت مغطاة باستخدام الخشب والدعون، أي سعف النخيل المشدود بالحبال، ما يضفي لمسات جمالية على المكان، لتصبح الرحلة في جنبات «السوق الكبير»، ممتعة للزوار والسياح تحت سماء الأصالة والزمن الجميل.
حضور المرأة
مع خروج الرجال للغوص لأشهر عدة، كانت المرأة هي من تلبي احتياجات منزلها، وتقوم ببيع بعض المنتجات في السوق. وبعضهن كن يبعن الأسماك والخضراوات والملابس، ويعملن في التجارة من خلال بسطة صغيرة تعرض منتجات خاصة بالزينة والجمال، ومنتجات تصنعها بنفسها، ليكون للنساء دور في عملية التجارة قديماً.