أحمد عاطف (القاهرة)
لا يزال الأكليشيه السينمائي الخاص بعلاج المرضى النفسيين بالموسيقى عالقاً في عقول الكثير من سكان المنطقة العربية والشرق أوسطية بمشهد «الاسترخاء بالجسد على شيزلونج في جو هادئ، إلا من موسيقى كلاسيكية هادئة وطبيب أو طبيبة يحدثه بكلام خافت عن ما يدور في نفسه من أسرار مدفونة»، إلا أن الوضع قد تغير الآن بعد انتشار علوم العلاج بالموسيقى والأغاني والعزف، أو ما يعرف بالـ «ميوزك ثيرابي» داخل مستشفيات ومراكز متخصصة في هذا النوع في المنطقة العربية. وعلى الرغم مما يظنه بعضهم من أن هذا النوع من العلاج لا يزال أحد دروب الوهم، إلا أن فريقاً آخر يعترف ويتفاعل مع تلك التقنية العلاجية التي لا تعتمد على أدوية وحقن أو حتى سرد الذكريات لمعالجة أزمات الماضي، كما يفعل متخصصو العلاج النفسي، إلا أن هذا النوع من العلاج يتفاوت بين الاستماع إلى الموسيقى والغناء والعزف على الآلات الإيقاعية والتي تدور فيها حياة المرضى بين البسمات والنغمات.
«الاتحاد»، تواصلت مع حالات خاضت تجارب العلاج بالموسيقى في 3 دول عربية يروون وقائع ما جرى معهم داخل مراكز ومعاهد للعلاج بنواحيها الإيجابية والسلبية، كما تحدثنا مع متخصصين في علوم النفس والموسيقى والنظم التي يتعاملون بها مع فئات مختلفة.
يسرا، ذات الـ 14 عاماً، والمقيمة مع أسرتها في لبنان، ولدت بمتلازمة داون وكانت مصابة بعدم القدرة على الكلام، والتلعثم وفقدان الثقة بالنفس، وكذلك ضعف القدرة على الحفظ، ما إن علمت أسرتها طريق العلاج بالموسيقى بعدما سمعوا من جيرانهم عن فعاليته وعن تجاربهم الفعالة معها، حتى بدأوا في توجيه ابنتهم إليه.
أسرة يسرا أشارت إلى أنهم اصطحبوها لأكاديمية «كيز آند كوردز» المتخصصة في العلاج بالموسيقى في لبنان، حتى تحولت حياتها رأساً على عقب على مدار 6 سنوات كانت تتلقى فيها العلاج بالموسيقى، موضحين أنها بعد أن كانت لا تستطيع أن تحكي 3 كلمات، أصبحت تقول جملاً كاملة ومفهومة.
بدأ الأمر ببرنامج علاجي موسيقي مع المتخصصين بالأكاديمية، عبر 4 جلسات أسبوعياً بالميوزك ثيربي وتمارين للغناء التي تتراوح بين الموسيقى الكلاسيكية الهادئة والروك الصاخبة، لا سيما أن لكل حالة مزاجها الموسيقي الخاص.
من جانبها، تقول الدكتورة ريم الديب المعالجة الموسيقية، ومغنية الأوبرا الكلاسيكية، مديرة أكاديمية Keys›n Cords للموسيقى، إن العلاج بالموسيقى ليس أمراً عابراً لأنه يحتاج متخصصين واعين، لافتة إلى أن الحالات التي تعالج بالموسيقى في لبنان ليست فقط من ذوي الاحتياجات الخاصة أو المرضى النفسيين، موضحة أن أكاديميتها تعالج أجانب ووزراء ومسؤولين أمميين رأوا أن اللجوء للموسيقى حل بعد شقاء العمل وأعطت لهم نوعاً من الاسترخاء وتغيير المود.
المعالجة الموسيقية اللبنانية ريم الديب أوضحت لـ «الاتحاد» أنها أسست الأكاديمية قبل 7 سنوات في العام 2015 وبدأت بعلاج ذوي الاحتياجات الخاصة، ثم توسعت وأصبح لها جمهور كبير لا يقل سنوياً عن 40 حالة، مشيرة إلى أنها تضع أهدافاً للسيشن قبل بدايتها، للوصول لتركيز أكثر في استعمال الموسيقى والآلات.
وقالت الدكتورة ريم: إن الحالات لديهم ليس في لبنان فقط، ولكنها في عدد من الدول العربية، وأحياناً تكون الجلسات افتراضية معهم في السعودية والإمارات والأردن، وكذلك في لندن ودول أخرى، نافية الاعتقاد السائد أن هذا النوع من العلاج للأغنياء فقط أو لطبقة محددة، لكنه أصبح في إمكان الجميع.
ومن لبنان إلى مصر، حيث رائد تجربة العلاج بالموسيقى في مصر الدكتور يحيى الرخاوي والذي تنعقد داخل مستشفاه «الرخاوي للصحة النفسية وعلاج الإدمان» جلسات للعلاج بالموسيقى، وكذلك للعلاج بالفنّ وبالحركة والرقص وبالخدمات الروحيّة.
وقال الرخاوي في حوار سابق لـ «الاتحاد» قبل وفاته: إن الموسيقى نشاط له طابع مفيد في العلاج خاصة لدى الأطفال، موضحاً أن رَبَط الفراعنة الموسيقى بالدين والعبادة، ثم كان للفلسفة اليونانية دور كبير في العلاج بالموسيقى، واعتقادهم أنها تعمل على شفاء الأمراض الوظيفية والعضوية.
وأضاف الرخاوي أن الموسيقى ارتبطت عند المصريين القدماء بالنفس، حتى أن كلمة موسيقى جاءت بالأصل من كلمة ميوزيوس وهي تعني آلهة الفنون، مشيراً إلى أنه في سياق العرب فقد أوصى ابن سينا بالموسيقى واستخدموها في المشافي، وقد قال الرازي: أفضل شيء لمرضى الماليخوليا هو الغناء والتنغيم كأحد علاجات هذا المرض، أما الكندي فقد قال: إن كل وتر وتنغيمه وإيقاعه يؤثر على منطقٍة ما في جسم الإنسان. أما ابن سينا فقد أوصى بتطبيق أعمال الفارابي الموسيقية في علاجه للمرضى المصابين بأمراض عقلية، وأصبح عمل هذين العالمين قاعدة لتطوير العلاج بالموسيقى لاحقاً.
تتبعت «الاتحاد» جذور وبدايات العلاج بالموسيقى، حيث تشير الروايات المتواترة أنه عندما شاركت مجموعات موسيقية متنقلة مع قدامى المحاربين في المستشفيات أثناء وبعد الحربين العالميتين، بدأ الأطباء في إدراك التأثيرات القوية للموسيقى على عملية التعافي وطلبوا الاستعانة بالموسيقيين المحترفين من قبل المستشفيات، لاسيما أن هذا الأمر خلق حاجة للتدريب المتخصص في تقديم الموسيقى المناسبة كطريقة علاجية.
ولفتت الروايات المتواترة أنه تدريجياً بدأت الكليات والجامعات تشمل العلاج بالموسيقى كجزء من مناهجها الدراسية، بدءاً من جامعة ولاية ميشيجان الأميركية في عام 1944، وفي عام 1950 تم تشكيل أول منظمة مهنية كبيرة للمعالجين بالموسيقى وأصبحت تعرف باسم «الرابطة الوطنية للعلاج بالموسيقى»، ويعتقد المتخصصون أنه عندما يجد البعض صعوبة في التعبير عن أنفسهم بشكل لفظي، فإنهم قد يظهرون درجة أكبر من الاهتمام والمشاركة في العلاج بالموسيقى مقارنةً بمشاركتهم في أشكال العلاج التقليدية، كما أنه ليس من المطلوب أن يكون هناك أي خلفية في الموسيقى لدى الشخص للاستفادة من هذا النهج العلاجي.
في جنوب صعيد مصر المعروف عنه التمسك بالعادات والتقاليد الموروثة، برزت تجربة جديدة لمبادرة وشركة أصداء «Echo» المعنية بنشر الثقافة وأشكال مختلفة من الفنون الأدائية والبصرية في المنيا والقاهرة، ومن أنشطتها العلاج بالموسيقى وبالرقص المعاصر.
تقول نرمين حبيب، وهي فنانة مصرية وراقصة ومصممة رقصات معاصرة، حاصلة على درجة في الفلسفة وعضو في المجلس الدولي للرقص، إنها تعالج المشاكل النفسية عبر التعبير عنها بالفنون وبالعروض الفنية، كان آخره عرض مع سيدات بالرقص المعاصر بعدما بدأن بجلسات بالحركة، لافتة أنهن أخرجن مشاكلهن عبر الرقص.
وأضافت نرمين حبيب ل «الاتحاد»، أن العلاج بالرقص المعاصر بدأ في القرن العشرين، وهو ليس خاصاً بطبقة معينة، ولكن له قواعد ممنهجة بشدة، مشيرة إلى أن الجمهور له دور في الاندماج فيما بين الموسيقى والحركة، لافتة أن ردود الأفعال الأولى على هذا العلاج هو السؤال «هو ده أيه؟» الجهل بالشيء في البداية ويدفعه للفضول.
وأكدت نرمين أنها تعالج المعنفات واللاجئات وغيرهن، لافتة إلى أنهم في البداية يتحدثون سوياً عن الخلفيات خلال جلسات تعارف لخلق علاقة جيدة بالمدرب ولكي نتعرف على الأمور الحساسة في التعامل معه، ثم تبدأ مرحلة التمارين الرياضية للتعرف على العضلات والمفاصل، ثم إدخال الموسيقى لإعادته لأجواء الطفولة أو المراهقة أو لذكريات جيدة ومن ثم الحركة والموسيقى تأتي بنتائج صحية، موضحة أن لديهم معالجاً نفسياً بالحركة. وأشارت نيرمين حبيب إلى أنها موجودة في مصر من 4 سنوات بإجمالي 7 مدربين معتمدين واهتموا بالأوضاع في الصعيد للشباب والسيدات، خاصة أن محافظة المنيا النائية وهم قطاع بعيد عن العاصمة، لافتة إلى أن العلاج بالفن أو الموسيقى ليس فقط للمصابين بالـ «تروما»، مشيرة إلى أنها عالجت 550 حالة من فئات مختلفة في 7 محافظات.
المُثير للدهشة - وفقاً لأطباء ومراجع طبية - أن بعض التجارب والدراسات أظهرت أن الدماغ لا يستقبل ذبذبات الموسيقى عن طريق السمع والأذنين فحسب، بل أيضاً عن طريق أعضاء أخرى مثل الجلد والعظام، وبحسب تقرير لموقع «كونفرزاشن»، فقد ثبت أن الغناء أو العزف على آلة موسيقية أو حتى الاستماع إلى الموسيقى ينشط العديد من مناطق الدماغ التي تتحكم في الكلام والحركة والإدراك والذاكرة والعاطفة وغالباً يتم كل ذلك في نفس الوقت.
اختصاصي الطب النفسي المصري الدكتور محمد صديق قال: إن العلاج بالموسيقى هو واحد من العلاجات السلوكية التي تستهدف بالأساس الاسترخاء والقدرة على توطيد استراتيجية «هنا والآن»، لا سيما أن البشر لهم زمنان يستقطبانه هما الماضي والحاضر، لافتاً إلى أن كثيراً من العلاجات الروحية تركز على «الآن» للمساعدة على التركيز على التواجد في الوقت الحاضر.