سلطان الحجار (أبوظبي)
«ذاكرة الجسد»، رواية من تأليف الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، صدرت عام 1993 في بيروت، وبيع منها أكثر من 3 ملايين نسخة.. اعتبرها النقّاد أهم عمل روائي صدر في العالم العربي خلال العشر سنوات الأخيرة، وبسبب نجاحاتها أثير حولها الجدل مما جعلها الرواية الأشهر والأكثر جاذبية للقراء.. ظلّت لسنوات عدة الأكثر مبيعاً حسب إحصائيات معارض الكتاب العربية (معرض بيروت – عمّان- سوريا- تونس- الشارقة)، وصدر عنها عدد من الدراسات والأطروحات الجامعيّة عبر العالم العربي. خاصة جامعات الأردن، سوريا، الجزائر، تونس، المغرب، مرسيليا، والبحرين.
حصلت «ذاكرة الجسد» على جائزة نجيب محفوظ للرواية عام 1998، وهي جائزة تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة لأهم عمل روائي بالّلغة العربية، وحازت «جائزة نور» عن مؤسسة نور للإبداع النسائي القاهرة 1996، فضلاً عن جائزة «جورج طربية للثقافة والإبداع» عام 1999 لأهم إنتاج إبداعي (بيروت).
كما تُرجمت الرواية إلى عدّة لغات عالمية منها: (الإنجليزية عام 2003)، (الفرنسية عام 2003 عن دار Albin Michel)، وأيضاً تُرجمت إلى الإيطالية، الصينية، والكردية. يرى النقاد أن «ذاكرة الجسد» رواية رائعة ثائرة متجددة في صورها الشاعرية وتاريخيتها السردية وزخم أحداثها المتواصل، ويعتبرونها من أفضل روايات مستغانمي بحكائها البصري وصورها المتجددة.
وتُعد الرواية من أجمل الروايات التي عبّرت عن الآمال العريضة للشعوب العربية، من خلال تركيزها على قصة حرب التحرير والحقبة التي بعدها، لتصبح هذه القصة ذاكرة أجساد ضحّوا بأنفسهم فداء للوطن، بل إنها ذاكرة أوطان كانت جراحها تنزف على مائدة الاحتلال والخيانة.
تدور أحداث الرواية حول (خالد وحياة)، وهما بطلا الرواية، حيثُ يقرر خالد أن يكتبَ قصَّته مع وطنه ومدينته قسنطينة التي وجدَ أنَّ فتاة أحلامه (حياة) تجسدها وتمثلها في صفاتها وملامحها، ومع اندلاع الثورة تبدأ الرواية بعودة خالد بن طوبال إلى الجزائر بعد سنوات من الاغتراب للمشاركة في دفن جثة أخيه الذي قُتلَ برصاصة طائشة في أحداث أكتوبر عام 1988م، ليبدأ في سرد حكايته، وفقاً لأحداث الرواية، بطريقة «الفلاش باك»، فقد كان خالد من أوائل الشباب الذين شاركوا في الثورة الجزائرية، خصوصًا أنَّه كان جاراً ل«سي طاهر» أحد قادة الثورة آنذاك، وهو (والد حياة)، وبعد وفاة (والدة خالد) يلتحق برجال «سي طاهر» حيث يتقرَّب إليه، ويجد فيه الأخ والسند، ونتيجة لثقة «سي طاهر» به يبدأ في إسناد المهام الصعبة والخاصة إليه، ويبقى كذلك إلى أن يُصاب خالد ما يؤدي إلى بتر يده اليسرى، فيضطر إلى الانتقال إلى الحياة المدنية.
بعد الثورة يغادر خالد أرض المعركة تاركاً رفاق السلاح بما فيهم «سي طاهر»، فيحمِّله الأخير أمانة إلى والدته، بالإضافة إلى ورقة فيها اسم ابنته الوليدة منذ شهور، ويكلفه بتسجيلها في البلدية وكان ذلك في عام 1956م، وبعد أربع سنوات يستشهد «سي طاهر» في إحدى المعارك تاركاً وراءه أمّاً وزوجةً وصغيرين هم: (حياة وناصر)، يبقى خالد على العهد مع العائلة ويرعاها لفترة من الزمن، لكن بعد الاستقلال ينفصل خالد عن أسرة «سي طاهر»، ويغادر البلاد إلى فرنسا، لأنَّه يجد في النظام الجديد القائم ما يخالف مبادئه وقناعاته التي شارك في الثورة من أجلها يوماً ما.
من هنا، بدأ يشعر باغتراب أطبق على صدره، فجزائره التي حلم بها دائماً لم تعد تتسع لمثله من أصحاب المبادئ الذين لم تتبدل جلودهم بعد الثورة، مما دفعه إلى ترك بلاده قاصداً فرنسا ليعيش فيها فترة طويلة، حيث يتعرف على فتاة تدعى (كاترين)، وباعتباره من الرسامين الموهوبين يقرر رسم لوحة لوجهها الجميل، ويعرضها في أحد معارضه، ومع اقترابه منها يدخل معها في علاقة حميمية، لكن حبه لـ(حياة) جعله عاجزاً عن منح قلبه لكاترين، هذه المرأة التي ترمز إلى فرنسا المنفى الاختياري له.
أمل وألم
يتحوَّل خالد إلى فنَّان في فرنسا ويبدعُ في الرسم، كانت لوحاته تفيض بآلام العشق وصورة (حياة) التي لم تفارق خياله، ويبدأ بإقامة المعارض الخاصة به، وكانت رسوماته تجذب الجمهور نتيجة ما تحمله من صدق المشاعر ووجع الفراق، وفي واحد من المعارض التي يقيمها في باريس، وبينما هو يتنقَّل بين الزائرين الكثُر، يلمح فتاتين تجذبانه ملامحهما الجزائرية، والتي لا تقل وصفاً عن ملامح مدينته قسنطينة، في هذه اللحظة تشده رغبة لواحدة منهما، فيقترب للتعرف عليها، فيفاجأ بأنَّها (حياة) نفسها التي كان قد لاعبها كثيراً في صغرها، وهو مَن أطلق عليها هذا الاسم، وقد أصبحت فتاة في كامل أنوثتها وبهائها، فيقع في حبِّها مباشرةً، وتتطور العلاقة بينهما، فقد أتت حياة لرؤية الرجل الذي رافق والدها في الحرب، وتتطوّر علاقتهما إلى عشق ورغبة دفينة وأحلام واسعة لا نهاية لها، وبعد أن أمضَيَا وقتاً طويلاً في باريس عرَّفها هناك على صديق له اسمه (زياد) يقاتل في لبنان على الجبهات ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي.
ويواصل سرد تطورات علاقته مع حياة، فهي التي جاءت إلى المعرض لتلتقي برجل لازم أباها ليحكي لها عنه كإنسان بمساوئه وحسناته، لا كما يتكلمون عنه كبطل خارق لا يتألم ولا يشكو..
يدخل خالد في دائرة المعاناة نتيجة حبِّه الشديد لـ(حياة) التي تصغره بخمسة وعشرين عاماً، لا يدري إذا ما كانت تبادله نفس الشعور أم مجرَّد مشاعر ارتياح، أم أنَّها وجدت فيه ما يعوِّضها عن والدها الذي فقدته، لكنَّ خالد وصل في حبها إلى درجة الجنون وكان يتمنى أن تبادله نفس المشاعر، وبقي يحلم ويعيش على ذلك الأمل، إلى أن وصلته دعوة من «السي الشريف» (عمِّ حياة) لحضور حفل زفافها، وفي ذلك اليوم أحس بشعور الألم والخيبة والدهشة، فقد ضاع حلمه وتزوجت حياة من مسؤول عسكري يشتهر بفساده.
وبذلك جسَّدت الرواية الكثيرَ من معاناة هذا الشابّ الجزائري الذي طعنته الحرب وطعنه الحب وكسره الوطن أيضاً، حيث استطاعت أحلام مستغانمي، من خلال هذه الشخصية، أن تصل إلى قلوب الناس وتكسب شغف عيونهم، وكان من أجمل ما كتبت في روايتها هذه: «نحمل الوطن أثاثاً لغربتنا، ننسى عندما يضعنا الوطن عند بابه، عندما يُغلق قلبه في وجهنا، دون أن يلقي نظرة على حقائبنا، دون أن يستوقفه دمعنا، ننسى أن نسأله من سيؤثثه بعدنا».. وكتبت أيضاً «عزائي اليوم، أنَّك من بين كلِّ الخيباتِ، كنتِ خيبتي الأجمل».. وقالت: «الذين نحبُّهم لا نودِّعُهم، لأنَّنا في الحقيقةِ لا نفارقُهم، لقد خُلِقَ الوداع للغرباء، لا للأحبّة».
على الشاشة
«ذاكرة الجسد» تحولت إلى عمل درامي، من إنتاج تلفزيون أبوظبي عام 2010، من إخراج نجدة أنزور، سيناريو ريم حنا، وبطولة جمال سليمان في دور (خالد بن طوبال)، أمل بوشوشة (حياة)، ظافر العابدين (زياد)، جواد الشكرجي (سي الطاهر)، مجد فضة (خالد الشاب)، خالد القيش (إحسان)، فيما جسدت زينة حلاق دور (عتيقة).
وتدور أحداث المسلسل حول «خالد» الرسام الذي فقد ذراعه أثناء الحرب ويقع في غرام فتاة جميلة، هي ابنة مناضل جزائري كان صديقاً لـ«خالد» أثناء ثورة التحرير، لكنه قُتل أثناء الحرب التحريرية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي.
تتصاعد الأحداث الدرامية مع مواجهة (حياة) لتقاليد مجتمعها، خاصة بعد زواجها من ضابط كبير ذي نفوذ ضخم في الحكومة الجزائرية، وتتنازل عن حبها لخالد الذي عاش بعد زواجها آلام الفقد وأوجاع العشق وانكسار القلب..
وكانت الفنانة الجزائرية أمل بوشوشة، قد بدأت تجربتها الأولى في الدراما التلفزيونية عبر هذا المسلسل في دور (حياة)، بعدما انطلقت في الغناء وتقديم البرامج، وكان المسلسل يتألف من 30 حلقة، وعُرض في شهر رمضان 2010 على قناة «أبوظبي»، ويعتبر العمل من الإنتاجات النادرة التي تحاكي الطبقة المثقفة.
صورة بانورامية
بطل القصة (خالد) يسلط الضوء من خلال صورة بانورامية، لماضي ومآثر وحاضر الجزائر في فتره الثمانينيات، عبر صوره نقدية للأوضاع بعد تحريرها من انتشار النزعة الاستهلاكية، مروراً بابتعاد الحكومة عن روح مبادئ الثورة، وانتهاءً بالاضمحلال الفكري والثقافي للشعب الجزائري، ليصبح النقد فضفاضاً ينطلق من سياسات الحكومة إلى محدودية دخل الموظفين الحكوميين، والتي تتجسد في شخصية شقيق خالد (إحسان)، والتي تشكو زوجته (معتوقة) في أحد الاتصالات مع خالد، من تهالك أثاث المنزل وكثرة الأطفال، وهو المدرس ذو الدخل المحدود والذي يفي راتبه الشهري بالكاد لسد رمق أطفاله، مع الاتجاه نحو تسليط الضوء على الحركة الإسلامية المتنامية، والذي يجسدها (ناصر) شقيق أحلام، والتي خذلته الحكومة بمنحه متجراً لبدء حياته، اعترافاً بمناقب والده والذي ينتهي به المطاف باعتزاله الناس واعتكافه في المسجد.
والرواية تعبر بشكل عام عن انحسار نفوذ اليسار الذين شاركوا في حرب التحرير، والتي عبرت عنه الكاتبة بفقدان خالد لذراعه اليسرى، وبروز الطبقة البرجوازية التي تتحكم بمقاليد الحكم، وذلك عبر أسلوب مركب من المذكرات الشخصية لأحلام مستغانمي، خاصة إذا علمنا أنها ابنة أحد شهداء التحرير، لتخرج الرواية في ثوب السرد البانورامي بلغة تعبيرية دقيقة، من خلال توظيف الفلاش باك وتوظيف (المونولوج) ليضفي عمقاً على أحداث الرواية.
مستغانمي.. بين الواقع والخيال
أحلام مستغانمي، كاتبة وروائية جزائرية، ولدت في 13 أبريل عام 1953 بتونس العاصمة، وعاشت بها تسع سنوات، ثم انتقلت إلى الجزائر بعد الاستقلال عام 1962، حازت جائزة نجيب محفوظ عام 1998 عن روايتها «ذاكرة الجسد»، كان والدها محمد الشريف مشاركاً في الثورة الجزائرية، دخل السجون الفرنسية بسبب مشاركته في مظاهرات 8 مايو 1945، وبعد إطلاق سراحه عام 1947 كان قد فقد عمله بالبلدية، لكن الشرطة الفرنسية استمرت في ملاحقته بسبب نشاطه السياسي.
أحلام عملت في الإذاعة الوطنية، واشتهرت بتقديم برنامجها «همسات» الذي لاقى استحساناً كبيراً من طرف المستمعين، ثم انتقلت إلى فرنسا في سبعينيات القرن الماضي، حيث تزوجت من صحفي لبناني، وفي الثمانينيات نالت شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون، وتقطن حالياً في بيروت.
اختارتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونسكو» لتصبح فنانة اليونسكو من أجل السلام لمدة عامين، باعتبارها إحدى الكاتبات العربيات الأكثر تأثيراً، ومؤلفاتها من بين الأعمال الأكثر رواجاً في العالم.
ومن أشهر مؤلفاتها: (كتاب على مرفأ الأيام 1972)، (كتاب فوضى الحواس 1997)، (كتاب عابر سرير 2003)، (رواية نسيان 2013)، و(رواية الأسود يليق بك 2012)، وغيرها.