من عجائب ما لاحظت بين المشتغلين بعلم النفس، هو التناقض الشديد بين مواقفهم من ألمع أسماء هذا العلم: سيجموند فرويد. هل هو عبقري أم نصاب؟
كثير من المشتغلين بالبحث العلمي يعتبرونه عالماً كاذباً «pseudo-scientist»، لأنه لم يعتمد على بيانات كافية أو تجارب منضبطة، وأفرط في الاعتماد على الحالات الفردية لتعميم استنتاجاته، بالإضافة لكونها حالات مَرضية لا يمكن تعميمها لفهم السواء النفسي..
لكن من الناحية الأخرى، لم أجد معالجاً نفسياً لا يحترم فرويد أو يستأنس بنظرياته، أياً كانت المدرسة العلاجية التي ينتمي لها.. فلا أحد ينكر وجود العقل الباطن المتحكم في سلوكياتنا «حتى لو تغير اسمه للعقل اللاواعي في الأدبيات الحديثة، أو للعقد القاعدية والمخيخ في علم الأعصاب... إلخ» ولا يوجد معالج نفسي لا يهتم بعلاقة العميل مع أبويه.. أو الإصغاء باهتمام لحلم يتكرر لديه.. لأن كثيراً من الظواهر النفسية لها ما يفسرها في نظريات فرويد..
حين ينفعل الأب على أبنائه دون مبرر منطقي، قد يكون السبب - الغائب عن ذهنه - هو إحباطاته في العمل أو مروره بأزمة منتصف العمر مثلاً.. إنها «الإزاحة» كما أسماها فرويد.. أن يزيح شخص عن كاهله شعور الاضطهاد، باضطهاد غيره.. رغم أن فرويد لم يكتشف هذا في دراسة منضبطة منهجياً، إلا أننا نجده يحدث حولنا كل يوم!
في رأيي، لا يمكننا محاسبة فرويد، لأن جهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي لم يكن متاحاً في القرن التاسع عشر! أي أن بدائية أساليبه في البحث العلمي تعود إلى أن هذا ما كان متاحاً في زمنه.. حيث كان علم النفس مجرد فرع من الفلسفة، يعتمد على التأمل والتفكير ومحاولة الفهم.. لكن فرويد ساهم في إخراجه من كونه أفكاراً متناثرة، لينتج بناءً فكرياً متماسكاً، وإن تداعت أجزاؤه بفعل تقدم طرق البحث والتحقق والتجريب، كما يحدث لأي نظرية علمية مضى عليها ما يتجاوز القرن..
لا يزال التحليل النفسي حياً بعد ترميم بعض جنباته.. فحسب المحللين النفسيين المعاصرين، أصبح الجنس -كدافع رئيسي في نظريات فرويد - كلمة رمزية تعبر عن الاحتياج النفسي بشكل عام.. وأصبحت عقدة أوديب تعبيراً رمزياً لأزمة التعلق بمقدم الرعاية.. وبينما تجرد الحسد الأنثوي Penisneid من معناه الحرفي ليصبح معبراً عن تطلع المرأة للمساواة في الامتيازات الاجتماعية، وما إلى ذلك..
لا يزال فرويد مثيراً للجدل بشكل لا يصدق.. ورغم الهجوم الشنيع الذي ستجده حين تبحث عنه في الإنترنت، إلا أن كتبه لا تزال تباع في كبرى المكتبات في بلدك.. ويظل محطة يتوقف عندها أي دارس لعلم النفس، بينما تدوي أصداء أفكاره بين جنبات غرف العلاج النفسي المغلقة من حين لآخر.
هل هو نصاب أو عبقري؟
تلك هي المفارقة الفرويدية!