أحمد القاضي وأحمد عاطف (القاهرة)
قبل ألف عام تقريباً، وإبان الحكم المملوكي للقاهرة، اعتاد سكان مصر على امتلاك أوانٍ وتحف مزخرفة مصنوعة بمزج مادتي النحاس والفضة، وازدهرت هذه الصناعة، وظلت تتوارثها الأجيال، وعرفها المصريون باسم «التكفيت».
وبمرور السنوات ظل أبناء حرفة «التكفيت» يهجرون إرث أجدادهم الثقيل، ويذهبون لتعلم حرف أخرى أكثر سهولة، ويمكن الربح منها وسط التطور التكنولوجي الحديث، الذي غير أذواق الزبائن، ولم يعد الاهتمام بامتلاك تحفة فنية نفيسة من بين أولويات المصريين في الآونة الأخيرة.
أما عادل جمعة آخر صناع مهنة «التكفيت» في مصر، فيرفض أن يتخلى عن ميراث الآباء، ومهنة العائلة حتى لو ترك أشقاؤه جميعهم الصناعة التاريخية، اضطر جمعة لتقديم الكثير من التضحيات حتى لا تندثر المهنة، أو يضطر إلى إنهاء عمل أحد الصانعين في ورشته.
وفي شارع المعز لدين الله الفاطمي بالقاهرة التاريخية تقع تلك الورشة التاريخية، التي يحصل فيها العاملون على المواد الخام النحاس والفضة، والأدوات اللازمة لصناعة الأواني والتحف، مثل المطرقة وقطعة من الحديد مخصصة للحفر والنقش على النحاس.
ويبدأ الصانع في تشكيل مئات النقاط بدقة متناهية على القطعة النحاسية، وبعدها تأتي مرحلة تحديد المساحات للكتابة أو الرسم، وأخيراً تبدأ مرحلة تطعيم الفضة داخل النحاس، ومن هذه المرحلة يأتي اسم المهنة «التكفيت» أو كفت الفضة داخل النحاس.
يصحح جمعة المفهوم الخاطئ لدى الكثيرين بأن القطعة الفنية الواحدة قد تكلفه وقتاً قصيراً، وجهداً عادياً، فالقطعة الصغيرة تستغرق ثلاثة أشهر من العمل المتواصل، وقد يصل العمل في إحدى القطع الكبيرة إلى عام كامل من العمل لثماني ساعات يومياً.
أسعار القطع المصنوعة تكون باهظة بعض الشيء بالنسبة للمصريين، لذلك فإن زبائن جمعة المستهدفين أغلبهم من الأجانب، وتحديداً في إنجلترا، حيث يتواجد المهتمون بمهنة التحف والقطع الفنية المصنوعة بطريقة «التكفيت» التراثية.
يستوحي صانعو ورشة «التكفيت» التاريخية أعمالهم الفنية بالغة الدقة من الآيات القرائية، فهناك النجمة الثمانية الإسلامية الشهيرة، وغيرها من النقوش الإسلامية التي تعود إلى آيات من القرآن الكريم، فضلاً عن أبيات من الشعر العربي القديم والحديث الذي يطلب بعض الزبائن كتابته خصيصاً على تحفهم النفيسة.
لم تعد المهنة ذات سوق رائجة، كما كانت في العصور الأولى للمماليك والأتراك، وإنما تواجه صعوبات بالغة منها ندرة العمالة المدربة، فكلما أمضى جمعة وقته في تدريب أحد العمال الجدد يجد العامل الأمر شاقاً، فيترك المهنة ويذهب لغيرها من الحرف الأكثر سهولة.
ومع غلاء سعر القطع الفنية يضطر الصانع لبيعها إلى التاجر بأسعار رخيصة تكاد تقترب من سعر شراء المواد الخام الأولية، ولا ينظر التاجر في أغلب الأحيان إلى قيمة الجهد المبذول في كل قطعة، والقيمة الفنية وراء كل مرحلة من مراحل الصناعة، بالغة الدقة والصعوبة.