محمد وقيف (أبوظبي)
يبحث كتاب روزماري سالومون «صعودُ اللغة الإنجليزية» الحروبَ اللغوية التي تخاض حالياً عبر مختلف أنحاء العالم، كاشفاً الرهانات السياسية والاقتصادية والثقافية وراء هذه الحروب، ومعتبراً أن اللغة الإنجليزية هي الفائزة حتى الآن. الكتاب يتيح نظرةً بانوراميةً واسعةً على الواقع اللغوي العالمي الذي تتسيده الإنجليزية من دون منازع، ويزخر بحقائق وأرقام تستوقف القارئ في كل صفحة من صفحاته الـ488.
وتُعد الإنجليزية اللغة الأوسع استخداماً في العالم، إذ يبلغ عدد المتحدثين بها نحو 1.5 مليار متحدث، على الرغم من أنها اللغة الأُم لأقل من 400 مليون نسمة فقط. وتمثّل اللغة الإنجليزية 60 في المئة من محتوى الإنترنت العالمي، كما أنها لغة التواصل المستخدمة في الثقافة الشعبية والاقتصاد العالمي. فضلاً عن ذلك، فإن كل الدوريات العلمية المئة الأكثر تأثيراً في العالم تصدر باللغة الإنجليزية. و«عبر أوروبا، يدرس كل الطلبة تقريباً اللغةَ الإنجليزيةَ في مرحلة ما من تعليمهم».
وحتى في فرنسا، التي لديها حساسية شديدة تجاه الإنجليزية، وحيث باتت مواجهة هيمنة اللغة الإنجليزية هاجساً رسمياً، تحقق الإنجليزية فوزاً لا تخطئه العين. فالمسؤولون الفرنسيون يحاولون باستمرار حظر المصطلحات والعبارات الإنجليزية الدخيلة المستخدمة في اللغة الفرنسية «من قبيل لاعب لعبة الفيديو، والويب المظلم، والأخبار الزائفة»، كما تكتب سالومون، لكن توجيهاتهم «تُتجاهل بهدوء». وعلى الرغم من أن قانوناً فرنسياً يُدعى قانون توبون «يُلزم محطات الإذاعة ببث 35 في المئة من الأغاني الفرنسية»، فإن «الـ65 في المئة المتبقية تهيمن عليها الموسيقى الأميركية». كما أن الكثير من الفنانين الفرنسيين يغنون باللغة الإنجليزية. وبموجب القانون، يتعين على تلاميذ المدارس الفرنسيين دراسة لغة أجنبية، ولئن كانت قائمة اللغات المتاحة تشمل ثماني لغات، فإن 90 في المئة منهم يختارون الإنجليزية.
سالومون، أستاذة القانون بكلية القانون التابعة لجامعة ساينت جون في نيويورك، تميل إلى المرور مرور الكرام على مسألة أسباب فوز الإنجليزية، وتكتفي بالقول إن الإنجليزية هي لغة الليبرالية الجديدة والعولمة. لكنها دقيقة في هذه المسألة وتحرص على التمييز بين الفروق الطفيفة في رصد المعارك التي تخاض حول السياسة اللغوية في بلدان مختلفة، من إيطاليا إلى الكونغو، وتحليل الفائزين والخاسرين غير المتوقَّعين.
لكن مَن هو المستفيد من هذا الانتشار الواسع للإنجليزية؟ إنها مسألةٌ معقدةٌ. ولا شك في أن هذا الانتشار يفيد أبناء اللغة الناطقين بالانجليزية. لكن الأميركيين، وبسبب ما تصفه سالومون بـ«أحادية اللغة المعتدّة بنفسها»، غالباً ما يكونون غير مدركين للامتياز الذي لديهم بفضل هيمنة لسانهم الإنجليزي على مستوى العالم كله. كما تفيد اللغة الإنجليزية الأقليات المرتبطة بالعالم والخاضعة لهيمنة السوق في البلدان غير الغربية، مثل البيض الناطقين بالإنجليزية في جنوب أفريقيا أو التوتسي الناطقين بالإنجليزية في رواندا.
أما في الهند، فإن دور اللغة الإنجليزية معقد للغاية. ذلك أن حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي القومي الحاكم يفضّل وصف اللغة الإنجليزية بلغة المستعمرين، ما يعيق رؤية هند توحّدها الثقافة الهندوسية واللغة الهندية. وبالمقابل، فإن اللغة الإنجليزية كثيراً ما يُنظر إليها على أنها درع واق ضد هيمنة الأغلبية من قبل الناطقين بلغات غير الهندية وأفراد الطبقات الدنيا. ومن جانبهم، يعتبر بعض الإصلاحيين الإنجليزية «لغة مساواة» في مقابل اللغات الهندية التي تحمل «تركة الطبقية». كما تُعد الإنجليزية رمزاً للمكانة الاجتماعية. وكما تقول إحدى الشخصيات في فيلم بوليوودي ناجح أُنتج مؤخراً، فإن «الإنجليزية ليست مجرد لغة في هذا البلد، بل طبقة». وفي الأثناء، يحث الآباء والأمهات الهنود، «من أغناهم إلى أفقرهم»، أطفالَهم على تعلُم اللغة الإنجليزية التي يعتبرونها بمثابة تذكرة للارتقاء الاجتماعي.
عوائد إيجابية في سوق العمل
تعلّم اللغة الإنجليزية مفيد ومجز، وله «عوائد إيجابية في سوق العمل عبر العالم». ففي العاَلم الأكاديمي اليوم، وحتى في أوروبا وآسيا، لم تعد القاعدة هي «انشر وإلا قُضي عليك» (كنايةً عن أهمية نشر أساتذة الجامعات للبحوث والدراسات بشكل دوري) وإنما أصبحت القاعدة «انشر باللغة الإنجليزية وإلا قضي عليك». وفي الشرق الأوسط، «يتقاضى الموظفون الأكثر إتقاناً للغة الإنجليزية رواتب أعلى بـ5 في المئة (تونس) إلى 200 في المئة (العراق) مقارنةً مع نظرائهم الذين لا يتحدثون الإنجليزية». وفي الأرجنتين، يعتقد 90 في المئة من المشغِّلين أن «الإنجليزية مهارةٌ أساسيةٌ لا غنى عنها بالنسبة للمشرفين والمديرين». وفي كل بلد شملته دراستها، تبين أن هناك علاقة بين ارتفاع الراتب وإجادة اللغة الإنجليزية.
وتختتم سالومون كتابَها بمناقشة مقتضبة لأحادية اللغة الأميركية، واصفةً موجات القلق السياسي بشأن التهديدات التي تواجه الإنجليزية كلغة وطنية، وداعيةً في الوقت نفسه إلى تعددية لغوية أكثر في البلدان الناطقة بالإنجليزية. وإلى جانب المزايا الاقتصادية لتحدث عدة لغات في عالم معولم، تشير سالومون إلى دراسات تُظهر أن تعلم لغات جديدة يحسِّن الوظائف الإدراكية بشكل عام. هذا علاوة على أن «النظر إلى الحياة من خلال عدسات لغوية وثقافية واسعة يؤدي إلى قدر أكبر من الإبداع والابتكار».