نسرين درزي (أبوظبي)
هل هو «يوم الحب» أو «عيد القديس فالنتاين»؟ وما الرابط الأسطوري الذي يجمع بين المناسبتين؟ وفي أي عصر عاش ملهم العشق؟ وفي أي قرن زاع صيته وخُلِّدت قصصه؟ ومتى كُرِّس اسمه رمزاً للحب حتى تحوَّلت ذكراه إلى تقليد يحتفل به العالم في 14 فبراير من كل عام؟
الطفل كيوبيد
مع كل مظاهر الاحتفال بـ «الفالنتاين»، والتي لطالما استعانت بالورود الحمراء وعبارات الحب، وكلَّلت في 14 فبراير وعلى مر الأزمنة صباح المحبين ومساءهم، حتى غزت مواقع التواصل الاجتماعي بمحتوى عصري يواكب التطور، لا بد من وقفة عند تاريخ «يوم الحب» منذ بزوغ فجره الأول، حيث تحوَّل التعبير عن الحب في العصور الوسطى من كتابة الرسائل إلى تبادل بطاقات تستلهم رموزاً رومانية كالطفل كيوبيد ابن فينوس.
قصيدة تشوسر
يعزو دارسو الأدب المعاصر تحوُّل القديس فالنتاين إلى راعٍ للعشاق، وارتباطه بالاحتفال بـ «يوم الحب» إلى قصيدة كتبها الشاعر الإنجليزي، جيفري تشوسر، عام 1380م، تكريماً لريتشارد الثاني، ملك إنجلترا، في عيد خطبته الأول على آن، من مملكة بوهيميا. جاء فيها: «وفي يوم عيد القديس فالنتاين.. حين يأتي كل طائر بحثاً عن وليف له، في مستهل الربيع الإنجليزي..». وافترض قرّاء القصيدة، على سبيل الخطأ، أن تشوسر كان يشير إلى 14 فبراير باعتباره يوم «عيد الحب». إلا أن هذه الواقعة، ما هي إلا إشارة متأخرة زمنياً للتعريف برمزية هذا التاريخ الذي ترك بصماته مع قصة موحيه القديس فالنتاين، قبل أكثر من ألف عام من كتابة تلك القصيدة.
من هو فالنتين؟
فالنتاين الذي يشار إليه باللاتينية إلى Valentinus، هو قديس روماني من القرن الثالث الميلادي، مات قتلاً في 14 فبراير عام 269م، ويُحتفل باسمه في هذا التاريخ من كُل عام كتقليد انتشر شيئاً فشيئاً منذ العصور الوسطى المتوسطة، وبدأ بالتعبير عن مودة الحب. وبالرغم من كل ما كُتب، ليس هناك حكاية حقيقية ثابتة عن هذا القديس حتى الآن. والرواية الأقرب أن «فالنتاين» كان كاهناً مسيحياً يزوِّج المحبين، ولأن الديانة المسيحية كانت ممنوعة في الإمبراطورية الرومانية، كان يعاقَب كُل من يمارس سراً من أسرار الكنيسة. ولهذا السبب اعتقلته السلطات الرومانية وحكمت عليه بالإعدام، فاشتهر منذ ذلك الوقت بأنه شهيد الحب لأنه ضحى بحياته من أجل سر الزواج.
القديس الروماني فالنتاين
عام 1260م
في القرن الثالث الميلادي، تعرضت الإمبراطورية الرومانية للغزو من «القوط»، وانتشر مرضا الطاعون والجدري، ما أدى إلى وفاة الآلاف يومياً، فازدادت الحاجة إلى الجنود لقتال الغزاة. وكان الاعتقاد السائد بأن أفضل المقاتلين هم العزّاب، فحظَّر الإمبراطور، كلوديوس الثاني، الزواج التقليدي على الجنود، واضطر المواطنون لعبادة الآلهة الرومانية، وإلا اعتُبروا «غير وطنيين» وأعداء للدولة. واستهدفت الاضطهادات في تلك الفترة المسيحيين، بإجبارهم على التخلي عن معتقداتهم أو مواجهة عقوبة الموت، ومورست عليهم خلال القرون الثلاثة الأولى للمسيحية، أشكال فظيعة من التعذيب، وأُتلفت في تلك الحقبة الكثير من الكتب والسجلات التاريخية، لذلك فإن تفاصيل حياة القديس فالنتاين تُعد شحيحة جداً، ولا يعرف عنها سوى القليل. وكانت تنتقل عبر الأجيال بسرد الروايات حتى طُبعت عام 1260م في Legenda Sanctorum، ونشرت في العام نفسه بواسطة Jacobus de Voragine، ثم عادت ونُشرت عام 1493م بواسطة Nuremberg Chronicle.
رسالة.. مِن «فالنتاين»
كان القديس فالنتاين إما كاهناً في روما، أو أسقفاً في تيرني وسط إيطاليا، خاطر بإغضاب الإمبراطور بدفاعه عن الزواج التقليدي، وقام بتزويج الجنود سراً في الكنيسة، فأُلقي القبض عليه، وحُكم عليه بالموت. وبينما كان في سجنه منتظراً تنفيذ أستيريوس حكم الإعدام، طلب منه سجّانه Asterius الدعاء لابنته الكفيفة، وهكذا كان، فاستعادت بصرها بأعجوبة، ما جعل والدها يتحوَّل إلى المسيحية مع كثيرين ممن ألهمتهم هذه القصة.
وتشير الروايات إلى أن فالنتاين قبل إعدامه كتب رسالة إلى ابنة السجّان التي وقع في حبها، ووقَّعها قائلاً: «مِن فالنتاين». وهي اللفتة التي يُشار إلى أن التاريخ الحديث استوحى منها تقليد إهداء البطاقات للمحبين. ويُقال إن فالنتاين تعرّض للضرب بالعصي والحجارة لقتله، لكن المحاولة فشلت ولم يمت، فقُطعت رأسه خارج «بوابة فلامينيا» إحدى بوابات روما القديمة، في 14 فبراير عام 269م.
وفي عام 496م عيَّن البابا غلاسيوس 14 فبراير «يوم القديس فالنتاين». وبدأ الأدباء منذ العصور الوسطى على غرار جيفري تشوسر، بربط «يوم القديس فالنتاين» بالحب، حتى أصبح خلال القرن الثامن عشر الميلادي أحد التقاليد الإنجليزية لتبادل الورود والحلويات وإرسال بطاقات المعايدة بـ«عيد الحب». وبدأ الاحتفال بـ «عيد الحب»، يتوسّع منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، حينما حوَّله التجار الأميركيون من تقليد ديني شعبي إلى حدث معاصر.
3 روايات
تستكشف أستاذة التاريخ والأديان بجامعة كاليفورنيا الجنوبية ليزا بيتيل، الجذور التاريخية لـ «عيد الحب»، وتذكر أنه بالعودة إلى النصوص القديمة، تبيَّن أن 3 أشخاص يحملون اسم فالنتاين، توّفوا في 14 فبراير، خلال فترة حكم الإمبراطور كلاوديوس الثاني، التي تمتد من عام 268م حتى عام 270م، ولكن أياً منهم لم يزوِّج المحبين.
وتشير القوائم، حسب تاريخ الوفاة إلى أن أحدهم كان قائداً عسكرياً في أفريقيا، وتُوفي في ظروف غامضة برفقة 24 جندياً.
والثاني هو أسقف بلدة تيرني القريبة من روما، أما الثالث فكان كاهناً رومانياً، والأخيران عُرفا بقدرات خارقة على شفاء المرضى، وتجادلا مع الحكام الوثنيين، وفقدا حياتهما في روما.
واللافت أن أياً من سيَر القديسين الـ 3، لم تُكتب قبل القرن الخامس الميلادي، أي بعد 200 عام على الأقل من الفترة التي عاشوا فيها. كما أنه لا توجد أدلة مادية أو مكتوبة، تعود إلى المراحل التي سبقت العصور الوسطى، تربط بينهم وبين الحب، وإنما عُرفوا، خلال القرون اللاحقة، كشفعاء للأمراض المستعصية.
بوابة «بورتا ديل بوبولو»
وتبقى سيرة فالنتاين الكاهن الروماني، الأكثر تداولاً، وربما يكون محبّوه قد بنوا كنيسة على قبره، في وقت مبكر من القرن الرابع الميلادي. كما أطلقوا على بوابة مدينتهم «بوابة فالنتاين»، والتي تُعرف اليوم باسم «بورتا ديل بوبولو».
وفالنتاين الروماني اعتُقل بسبب تبشيره بالمسيحية في عهد الإمبراطور كلاوديوس الثاني، الذي لم يمض وقتاً طويلاً في روما، وبحسب كتب التاريخ، فهو لم يأمر قط، باضطهاد المسيحيين. ومما سردته الروايات لاحقاً، أن كلاوديوس أبدى في البداية اهتماماً بكلام فالنتاين حول الديانة المسيحية، ولكن حاكماً يُدعى كالبورنيوس حذَّر الإمبراطور بالقول: «انتبه، فأنت تُغرى باعتناق دين زائف». وأرسل كلاوديوس فالنتاين للإقامة الجبرية في منزل أرستقراطي يُدعى أستيريوس، ووعده بثروة طائلة إذا تمكَّن من إخضاع الكاهن بحجج مضادة للمسيحية.
القرن الخامس الميلادي
وبحسب سيرة الأرستقراطي، شرع فالنتاين منذ دخوله المنزل - السجن، في التبشير بعقيدة المسيح، واشترط أستيريوس عليه شفاء ابنته الكفيفة لاعتناق المسيحية، فوضع الأخير يده على عيني الفتاة، وطفق في الصلاة من أجلها حتى أبصرت النور.
وتشير السيرة التي كُتبت، خلال القرن الخامس الميلادي، إلى أن فالنتاين نجح في تعميد أستيريوس و44 شخصاً كانوا في منزله. وحينما اكتشف الإمبراطور كلاوديوس الأمر اعتقلهم جميعاً، وأمر بقطع رأس فالنتاين ومن آمنوا بالمسيحية على يديه.
مسرحية شكسبير
على الرغم من قصص الشفاء الملهِمة التي نُقلت عن فالنتاين جيلاً بعد جيل، وإصراره على تزويج المحبين كمناصر لتتويج الحب، تذكر الدراسات الحديثة أنه لم تكن ثمة صلة بين القديس فالنتاين والحب الرومانسي، قبل إشارة الشاعر جيفري تشوسر لـ «عيد فالنتاين» في قصيدته عام 1380م. وقد بلغ الأخير مبلغاً عظيماً من القدرة على التأثير، وكان من أبرز الشعراء الإنجليز في فترة ما قبل العصور الوسطى، قبل عهد شكسبير.
تبادل البطاقات
وبعد ذيوع قصيدته بعقود طويلة، تحوَّل الإنجليز إلى تبادل رسائل الحب، في 14 فبراير، وبات القديس فالنتاين شفيعاً للحب، وملجأً لشكواهم إذ يلتمسون شفاعته من عذابات الوجد وفراق الحبيب. وتحفظ مسرحية «هاملت» للشاعر الإنجليزي ويليام شكسبير، تضرُّع أوفيليا للقديس فالنتاين وإشارتها لعيد الحب.
وبحلول القرن التاسع عشر، تحوَّل العشاق من كتابة الرسائل بخط اليد إلى تبادل بطاقات محمَّلة بقصائد الحب، تستلهم رموزاً رومانية كالطفل كيوبيد ابن فينوس، إلهة الحب والجمال في الميثولوجيا الرومانية وسواها. وامتدت عادة تبادل بطاقات المعايدة في «عيد فالنتاين» إلى الولايات المتحدة الأميركية، ومنها إلى العالم.