أحمد مصطفى العملة
حتى الآن - بعد أيام من الواقعة - مازال الإعلاميون أنفسهم حائرين، يتساءلون.. لماذا كانت كل هذه التغطية الحية المكثفة لمأساة ريان (رحمه الله)، الطفل المغربي الذي قضى نحبه في الجب.؟!
عقدت الدهشة الألسنة من منظر الشاشات التي كانت جميعها تبث مباشرة من موقع الحدث على مدار ساعات، وقالوا إنها ليست فرط تغطية، لأنها مأساة، ولأنه طفل، ولأنه جب. تفسيرات شتى، بعضها استحضر البعد الديني وقصة سيدنا يوسف، وبعضها قال إن وراء القصة حكاية وفي الحكاية سر.. وأن التغطية بعضها تائه، وبعضها مخادع، وبعضها ضعيف.. فأين المهنية؟
في كل الأحوال، كانت هذه هي المرة الأولى التي تجتمع فيها القنوات العربية على تغطية حية مباشرة في توقيت واحد لحدث.. ليس حرباً ولا أزمة سياسية، ولا حتى مظاهرات احتجاجية في هذه العاصمة العربية أو تلك. وبالنظر إلى حجم الاهتمام الجماهيري الذي استدعته التغطية غير المسبوقة، تفتح التجربة أعيننا على نقاط عدة تتعلق بالأداء الإعلامي العربي عموما، قد يبدو معها وكأن الإعلام نفسه هو الذي يعيش منذ زمن بعيد في جب سحيق يمنعه من رؤية حقائق كثيرة.. مثل ماذا؟!
مثل أن الأشخاص العاديين غائبون كثيراً عن صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون. البسطاء من الناس الذين لديهم قصص تستحق أن تروى وتسلط عليها وعلى أصحابها الأضواء. هؤلاء لا وجود لهم تقريباً. فمساحات الهواء والصفحات محجوزة لقضايا كبرى وأزمات كونية وصراعات أممية. لكن طفلاً مثل ريان،، يرحمه الله تعالى، لن يجد سبيله إلى الصفحات الأولى أو مقدمة نشرات الأخبار العربية إلا إذا كان ضحية مأساة مدوية.
إنه تذكير عنيف وقاسٍ للإعلام كله عبر العالم العربي، بأن جمهوره يستحق مزيداً من الاهتمام. وأنه حان الوقت لتسليط الضوء أكثر على القصص الإنسانية بكل تجلياتها. مهم جدا أن يظهر الناس بصورتهم وأسمائهم وقصصهم، سعيدة أم تعيسة.
تكشف التغطية أيضاً أن الأطفال بالتحديد لا وجود لهم تقريباً في إعلامنا العربي .. ومعهم الشباب.. إنهم غائبون إلا قليلاً. وكأن الإعلام العربي، للكبار فقط. ابحث في أي صحيفة أو محطة تلفزيون عن مادة محترمة مهنياً تتعامل مع الطفل باعتباره جديراً بتخصيص بعض الموارد لتغطية قضاياه.. لن تصل إلى نتيجة مقبولة بسهولة. ببساطة لأن الصحف والتلفزيونات مشغولة تماماً .. إما بقضايا كبرى لا تهم الصغار، أو بالجري في صحراء السوشيال ميديا، لمنافسة الهواة «المؤثرين» بتغطيات مرتبكة، متواضعة، متعجلة.
والأطفال والشباب ليسوا وحدهم ضحايا هذا النوع من التغطيات.. معهم أيضاً النساء والأقليات والمهمشين وأندية ذيل الدوري و«الألعاب الشهيدة». هؤلاء جميعاً في الإعلام مثل الكومبارس في السينما. «سنيدة» ليس أكثر.. إن وجدوا لهم مكاناً.
تكشف التغطية أيضاً أن العاصمة - أي عاصمة عربية - ليس فقط هي مسرح الأحداث والقصص والأخبار. هناك الأقاليم والمدن البعيدة التي يسكنها ملايين. هؤلاء عندهم قصص كثيرة، يستحق أن يعرفها أهل العاصمة ومسؤولوها.
باختصار، ريان بوفاته المأساوية أطلق من الجب صرخة قوية مازال صداها يتردد بقوة في جنبات صالات التحرير، ليطرح معها أسئلة مهنية مهمة، تحتم على الإعلام إعادة ضبط البوصلة، لعل وعسى يمضي في الاتجاه الصحيح، ويستعيد جمهوره الحقيقي على الأرض وفي العالم الافتراضي.