محمد وقيف (أبوظبي)
أبراج متحف «غوغنهايم أبوظبي» المشرشرة والمتعرّجة وممرّاته المحفوفة بأشجار النخيل مستوحاةٌ من السفن الشراعية الخشبية «الداو» التي تمخر عباب الخليج، ومن أبراج الرياح المصممة على شكل قمع المعروفة بـ«البرجيل»، التي تُبنى من أجل توفير تهوية في المنازل القديمة في الإمارات العربية المتحدة. المشروع، الذي صمّمه فرانك جيري، عانى من التأخير بسبب مشاكل مرتبطة بالتمويل وفسخ عقود. ولكن الآن وبعد عشر سنوات من بدء إعداد الموقع، استؤنف العمل أخير.
المتحف يُعد جزءاً من جهد طويل الأمد وممول من الدولة من أجل تنويع اقتصاد أبوظبي. والثقافة – وخاصة المتاحف – جزءٌ من الجهد. وسيمثّل غوغنهايم أبوظبي المتحفَ الثالث الذي سيُبنى على جزيرة السعديات، التي ستصبح أكبر مشروع بنية تحتية ثقافية بين مراكش وشنغهاي. المتحف الأول، «اللوفر أبوظبي» الذي صممه جون نوفيل، افتُتح في 2017، و«متحف الشيخ زايد الوطني»، الذي صمّمه السير نورمان فوستر، سيتلوه في 2023. والأمل هو أن يُفتتح «غوغنهايم أبوظبي» في 2025.
«إن الأمر يشبه التجول عبر بيئة ماينكرافت عظيمة حقاً»، يقول أحد مسؤولي التصاميم المحوسبة لقاعات العرض التي طوّرها «غوغنهايم أبوظبي». ولكن على الرغم من أن المبنى ما زال تخيلياً، إلا أن المجموعة الفنية حقيقية؛ إذ تضم نحو 600 عمل فني من 60 بلداً، نصفها اقتُني خلال السنوات الأربع الماضية. والمهمة واضحة، ألا وهي تقديم رحلة عبر الفن العالمي من ستينيات القرن العشرين إلى اليوم، ومن خلال ذلك إعادة كتابة قصة الحداثة.
الحداثة، وخاصة التعبيرية التجريدية، كانت في صميم مجموعة سولومان غوغنهايم الأصلية. عند وفاته في 1949، ترك رجلُ الأعمال وراءه مئات الأعمال الفنية لفنانين أوروبيين وأميركيين، من أمثال فاسيلي كاندينسكي ولازلو موهولي-ناجي، للمتحف الموجود في نيويورك الذي يحمل اسمه (والذي سيجني 100 مليون دولار مقابل الخدمات الاستشارية التي سيقدّمها بخصوص بناء أحدث فرع له ومقتنياته).
غير أنه كانت هناك عدة «حداثات»، وليس الحداثة الأورو-أميركية فحسب. وفي هذا الصدد، تقول ميساء القاسمي من دائرة الثقافة في أبوظبي: «عبر العالم... كان الفنانون يتساءلون:«كيف لي أن أكون حداثياً من دون أن أكون غربياً؟». كما أن الفنانين في الغرب كانوا كثيراً ما يتساءلون: كيف يمكنني أن أمتح من مصادر غير غربية وسابقة للحداثة لجعل الفن أكثر كونية؟».
«غوغنهايم أبوظبي»، المستوحى من تاريخ الإمارات وموقعها كمركز بين أوروبا وآسيا، يهدف إلى رسم خريطة تطور الحداثة إلى حركة عالمية ذات اختلافات طفيفة. وألكسندرا مونرو، أمينة قسم الفن الآسيوي في متحف غوغنهايم في نيويورك، تلعب دوراً مركزياً ضمن هذا الجهد. فقد أقنعت غاي أولنز، وهو هولندي يهوى جمع أعمال الفن الصيني المعاصر، بمنح «غوغنهايم أبوظبي» الاختيار الأول من مجموعته الفنية قبل أن يرسلها للبيع في دار سوذبي للمزادات في 2011. وهكذا، اقتنى المتحف الذي يوجد في طور النشأة أعمالاً لآي ويوي وهوانغ يونغ بينغ، وعملاً لفناني فيديو صينيين أوائل، وبعض الفن الشعبي السياسي الحديث الذي لا يمكن أن يعرض أبداً في الصين – مثل «المأدبة الأخيرة» (1989)، وباناوراما جانغ هونغتو حول تأليه ماو تسي تونغ. «لقد كانت نجاحاً حقيقياً»، تقول مونرو بحماس.
وإضافة إلى الفن الصيني، يعمل «غوغنهايم أبوظبي» على تكوين مجموعة من حركة غوتاي الراديكالية اليابانية، التي نبذت أساليب تقليدية في الخمسينيات لصالح أعمال كبيرة باستخدام الوسائط المتعددة وفورية الأداء، مقاربتان ستكتسبان شعبية في كل مكان لاحقاً. التركيز الآخر منصب على الحداثة الأميركية اللاتينية، مثل التجريد الهندسي لجيغو وخيسوس رافائيل سوتو، وكلاهما فنزويليان، وكارمن هيريرا (كوبية الأصل). وفي الأثناء، جمعت «حركة الخرسانة الجديدة» ليجيا كلارك وليجيا بابي وهيليو أويتيسيكا، نجوم المشهد الفني للبلاد في الخمسينيات. وكان هدف منحوتاتهم المطوية أو المنحنية هو جعل التعبيرية التجريدية أكثر إنسانية.
وعلى غرار الكثير من الفنانين الآسيويين والأميركيين اللاتينيين الذين يظهرون في المجموعة الجديدة، فإن عدداً من فناني إيران والعالم العربي درسوا في أوروبا في منتصف القرن العشرين، وبعد ذلك أنشأوا مراكز حداثية في بلدانهم. فمحمد المليحي ومحمد شبعة من «مدرسة الدار البيضاء»، على سبيل المثال، درسا في روما في أوائل الستينيات، ورفقة مواطنهما فريد بلكاهية طوروا روابط مع «مدرسة الباوهاوس» في التصميم. ولدى عودتهم إلى المغرب، سعوا إلى مزاوجة التأثير الحداثي لفنانين أوروبيين، مثل بول كلي ونيكولا دي ستايل، مع تجريد متأثر بالأنماط الهندسية للسجاد الأمازيغي واستخدام الحناء والجوز في دباغة الأعمال الجلدية.
بارفيز تانافولي، الذي درس أيضاً في إيطاليا، هو الشخصية المركزية لحركة فنية حداثية أخرى، تعرف بـ«سقاخانة» أو الفن الشعبي الإيراني. تاناوولي، الذي افتُتن بالحدادة وفن الخط، يشتهر أكثر بالمنحوتات المعدنية التي تستخدم الأحرف الثلاثة في كلمة «هيج» التي تعني باللغة الفارسية «لا شيء». منحوتاته تأثرت بألكسندر كالدر وبربرا هيبوورث، ولكن أيضاً بالأقفال المعدنية الرمزية التي كثيراً ما تُربط بنوافير الشرب الإيرانية. مثل هذا العمل عُرض بشكل عام في صوامع تخزين فنية، في عروض قائمة على الجغرافيا بدلاً من الشكل أو الأفكار.
والهدف في «غوغنهايم أبوظبي» هو رسم وإبراز الروابط التي يتم إغفالها، مثل تلك التي بين تاناوولي ومعاصره أون كاوارا، وهو فنان ياباني ابتدع سلسلة مهمة من اللوحات بناء على تواريخ في الرزنامة.
ويأمل المسؤولون أن تصبح جزيرة السعديات مشغِّلاً كبيراً. والواقع أنها أضحت نقطة جذب سياحية منذ بعض الوقت، وهذا أحد الأسباب التي دفعت 11.35 مليون شخص لزيارة أبوظبي في 2019، أي أكثر من ضعف العدد الذي أتى في 2016. وعندما يفتتح متحف «غوغنهايم أبوظبي» أخيراً، سيتيح فرصة للقاء كوكبة متلألئة من الفنانين وطرق جديدة لرؤية العالم، وسيخرج منه الزوار بفهم متجدد لتاريخ الفن الحديث المتحرك.
عن مجلة «ذي إيكونوميست» البريطانية